في بستان من بساتين منطقة (الصالحين) في حلب. كان عدد الموجودين حوالي العشرين
شخصاً. بعد أن انتظم بنا المجلس، تعارفنا فيما بينا وذكر كل شخص اسمه. كان أحد
الحاضرين في حدود الخامسة والأربعين ذكر أنه من بيت (عريضة).
فسأله أحدهم: إنني
لأول مرة أسمع هذه الكنية في مدينة حلب؟ فقال آخر: هنالك خطاط حلبي من بيت عريضة،
وأردف قائلاً: كنت وأنا صغير أقرأ إمضاءه على بعض (آرمات) المحلات في سوق
الحجارين، ووراء الجامع. فقال ابن عريضة: هذا الخطاط هو والدي رحمه الله، وفعلا لا
يوجد في حلب سوانا من بيت عريضة. واسمعوا قصة والدي التي لا تعرفونها. والدي هو أخ
الشاعر الحمصي المهجري المشهور نسيب عريضة. انتقل من حمص إلى لبنان وهو يافع،
وانضم لسلك الرهبنة، وبدأ دراسة اللاهوت، وتدرج في المناصب الدينية حتى غدا في
أواخر الثلاثينات مطراناً [أو أوشك أن يكون مطراناً… ما عدت أذكر]، وكان يشاع
بأنه سيكون البطريرك الأرثوذكسي القادم، وفي أثناء ذلك بدأ يميل إلى الإسلام، وظهر
هذا في فلتات لسانه ومناقشاته التي يجريها مع بعض الأصدقاء والخلان، إلى أن غدا
هذا الأمر واضحاً لدى الكنيسة التي نصحته أولا، ثم هددته أخيراً، وبعد أن تعرض
لمحاولة اغتيال فر هارباً وتخفى عن العيون، وظل على هذه الحال مدة خمس سنوات ينتقل
متخفياً من بلدة لأخرى، والطلب في إثره حثيث، وفي هذه الأثناء قامت الكنيسة بمحو
اسمه، وإخفاء أثر وجوده، أما هو فانتهى به المطاف في مدينة حلب وحيداً شريداً
خائفاً فقيراً… وهنالك تعرف إلى بيت جدي لأمي فخطبها وتزوجها، واختار أن يشتغل
خطاطاً، لأنه كان يهوى الخط ويجيده، ولكنها كانت مهنة لا تسمن ولا تغني من جوع،
ورغم أنه لم ينجب غيري، ورغم أن عائلتنا كانت صغيرة فقد عشنا حياتنا في فقر شديد،
غير أن والدي الذي غدا اسمه عبد الجواد عريضة كان دائم الرضا، فقد كانت سعادته
الداخلية تهبه السرور الذي يشتت كل أحزانه وآلامه….
التراجيدية القلقة المغمورة التي لولا هذه المصادفة في ذلك اليوم لما سمعت به.
تتنقل بين الأماكن والأديان تحقيقاً للصدق مع الذات وانسجاماً مع التطورات اللاهبة
التي تفرض نفسها عليهم.
ناشر النعم