الشيخ أسعد قطان

الشيخ أسعد قطان
كان الشيخ أسعد قطان، أسعده الله، موجهاً
في الثانوية الشرعية (الخسروية) في حلب، استلم التوجيه في 1982مكان الشيخ أبو
النصر البيانوني، الذي غادر البلاد، آنذاك، وكان الشيخ أسعد من أظرف المشايخ
وأكثرهم فكاهة ومرحاُ وحباً للحياة
.

في الصف العاشر كانت نظراتي الاستنكارية
تلاحقه دائما أينما اتجه، وتفترسه افتراساً، وكان يشعر بذلك فيتحاشاني ويتجاهلني
(أو هكذا كنت اظن). في تلك السن كنت أعتقد أن لبس البنطال محرم، ولذلك كنت أتساءل:
كيف يجيز الشيخ لنفسه أن يلبس بدلة رياضة حمراء، وينزل إلى ملعب المدرسة بعد
انتهاء الدوام، وينهمك في لعب كرة القدم؟
كان قصير القامة، ومتين البنية، كأنه
كتلة من الأعصاب، وكنت أشبهه بماردونا لعبا وتكوين جسد، ولكن ما كان ينبغي لهذا
الشيخ أن يخلع الجبة والعمامة، ويلبس بدلة رياضية لونها أحمر، ويلعب كرة القدم
مرة، وكرة الطاولة مرة أخرى
!! كنت
أقارن دائماً بينه وبين شيخي في تلك الآونة الشيخ عبد الله سراج الدين الشيخ
الراكز الزّميت الوقور، فأرى الشيخ أسعد في قمة اللامبالاة، كأنه غوار الطوشة
.
مرت الأيام، وتخرجت من الثانوية الشرعية،
ثم من الجامعة، وافتتحت مكتبة في شارع أقيول، وصرت ألتقي به دائماً قرب بيته في
حارة (الألمه جي)، في المسجد الذي يؤم الناس فيه، أو عند الفوال أبو نديم عسلية،
وكان مسجده الصغير (مسجد قنجق) أمام بيته اللزم، ولكن غدا تقييمي له مختلفاً
تماماً تبعاً لتطور وعيي وإدراكي ومواقفي، فقد بدأت أرى فيه ذلك الشيخ الذي يعرف
الهوبرة ويجيدها، ولكنه لا يستحسنها ولا يستخدمها. كان شيخاً من دون عدة نصب أو احتيال.
وأهم مفردات هذه العدة: التصنّع، والرياء، والترفع عن بني البشر! أما هو فلم يكن
يبالي على أي جانبيه يميل. فلم يتخذ من تاجر صاحباً، ولم يسع، ولم يستقتل، ليؤم
الناس في مسجد كبير فاره، في حي من أحياء الأغنياء، بل كان أصدقاؤه إما طالباً من
طلابه من أمثالي، أو بائع خضار، أو سماناً، أو بخاخ موبيليا، أو حلاقاً… يصحبهم
جميعاً فلا يشيع فيهم إلا روح الصفاء والمودة ورفع التكلف والتصنع
.
كان حقاً من المشايخ القلة الذين لم
يعبدوا المظاهر المادية، ولم يبيعوا وجودهم كله من أجلها، ولذلك كنت تراه منسجماً
ومتناغماً في بساطته ملبساً، ومأكلاً، ومسكناً، (رغم أنه كان يمتلك داراً عربية
واسعة أغبطه عليها)، وعلى هذا الأساس، ربى أولاده، فلم يزرع فيهم سوى روح
الاستقامة أولاً، و الترفع عن الدنيا وزخرفها ثانيا
.
كانت روحه كوميدية خلقة من الله تعالى
وعطية من عطاياه، وكان يختزن قصصا لا تعد ولا تحصى من الطرائف والمفارقات التي
تحدث معه شخصيا من خلال مخالطته الناس على اختلاف صنوفهم وفهومهم
.
كان يدخل ليعزي في وفاة أحدهم، فإذا رأى
بين الحضور أناسا أغنياء قال لهم: (لا تشوفوا هاد الزلمة مات وتخافو!! إنتو ما رح
تموتوا)
😎😎.
تعرض مرة لحادث على طريق أريحا فانقلبت
السيارة فيه أربع قلبات، وعندما جاؤوا وقصوا السيارة حتى يخرج منها، قال مطمئنا
المسعفين وهم يخرجونه من بين الركام والحطام: الحمد لله الساعة بإيدي ما صار لها
شي
.
وفي إحدى المرات ذهب إلى الحج بدون تقديم
إجازة رسمية من مديرية التربية، وبالصدفة زار التفتيش مدرسته، فنقلوا مدير المدرسة
لريف حلب، وأوقفوا الشيخ سنتين عن التدريس، وأصبحوا يستدعونه لمكتب التفتيش
للتحقيق معه المرة تلو الأخرى كأنه قد ارتكب جرما ما بعده جرم. واحد من لجنة
التفتيش قال له: أنت شيخ!! كيف بتعمل هيك؟ فقص الشيخ عليه القصة التالية
:
في ضيعة من الضياع كان لدى شخص قن دجاج
تسلط عليهن ذئب. كل يوم يأكل واحدة
.
حلف صاحب الدجاج يمين أنه رح يموت الذئب
موتة ما حدا مات متلها
.
وفعلا أمسك الذئب، وكل ما خطر بباله
طريقة قتل كان يرى أنه في متلها
.
حتى أشار عليه حكيم، وقال له: لبّس الذئب
عمامة، وخليه يصير شيخ. وسيموت من الجوع لوحده. كل ما جاء يعمل شغلة سيقولون له:
إنت شيخ!!! حرام!!! وهكذا سييبس الذئب ويموت من الجوع موتة ما حدا مات مثلها
.
فضحك المفتش، وخفف من غلوائه وأرجعه
للعمل
.
ومرة حضرت على الهواء مباشرة إحدى
طرائفه، التي مازالت تضحكني كلما ذكرتها أو تذكرتها. كان من عادته في الشتاء أن
يصلي العصر، فإذا ما غادر الناس المسجد ترك الشيخ باب المسجد موارباً لمن يحب أن
يستدرك الصلاة إذا فاتته صلاة الجماعة، ثم يضجع سويعة على أريكة في جانب القبلية
.
دخل أحد المصلين المتأخرين المسجد فوجد
الشيخ مضجعاً، وقد غطى رأسه وبدت فقط قدماه، فمشى بتؤدة وتوضأ وصلى العصر بلا جلبة
لكيلا يوقظ الشيخ، ثم غادر المسجد ومشى إلى الفوال أبو نديم عسلية ليأكل صحن فول،
وياللهول. على باب المطعم شاهد الشيخ أسعد أمامه واقفاً، فهجم عليه وصاح: الله
أكبر… شيخ أسعد!! هادا إنت هون كمان؟ ألم أتركك الآن نائماً في المسجد، فبادر
الشيخ أسعد مباشرة إلى وضع يده على فم الرجل، ثم همس في أذنه: دخيل الله لا تفضحني
واستر علي. فالأولياء يستحون من كراماتهم كما تستحي الفتاة من حيضها! فانهال
المصلي يريد ان يقبل يده، ويقول له هامساً: لله رجال … لله رجال…. شيخي إنت من
الأبدال مو؟؟ والله أنت من (الأبدال). أما الشيخ فظل يهمس في أذنه: اسكت. لا
تتكلم. لا تفضحني
.
ثم نظر الشيخ إلي ضاحكاً ولعّب حواجبه
وحركها، وقال لي والمصلي يسمع: يمكن أحد الجيران كان متعباً فاضجع على الأريكة
.
كان ابنه البكر محمد زميلي في الصف في
الثانوية الشرعية ، وكان نسخة عن والده مرحا وبساطة وطيبة وألمعية في اقتناص
الفكاهة وفي بثها ، عمل مدرسا للتربية الإسلامية، ثم غدا موجها اختصاصيا للتربية
الإسلامية في مديرية التربية في حلب. وتم اعتقاله منذ 4 سنوات في المخابرات الجوية
، بسبب تقرير كيدي، وبعد حوالي سنة ونصف من الاعتقال طلبت المخابرات من أهله
استلام هويته
.
وأخبرني الشيخ أنس بن الشيخ أسعد:
كان والدي قاعدا في المسجد يقرأ القرآن
فدخلت إليه لأخبره خبر استشهاد أخي. ولما رآني أوقف القراءة، وقال لي: خير ابني؟!
فقلت له: أعظم الله أجركم. فقال لي: محمد ؟ فقلت: نعم. فقال: لكل كتاب أجل، ثم عاد
إلى المصحف، ولم يلتفت إلي
.
أطال الله في عمر الشيخ أسعد ، وجبر
مصابه، وأحسن عزاءه
.
محمد أمير
ناشر النعم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *