الجانب الآخر لمصطفى صادق الرافعي الجزء الثالث

المندهش من نفسه:
وفي غمرة حجّ الرافعي لنفسه وتسويقه إياها نقرأ كلماته
التالية: “وأنا في الحقيقة يا أبا رية مندهش من أوراق الورد” (رسائل
الرافعي، ص:
193)، ويخبرنا مرةً أخرى: “لقد قرأت أوراق
الورد في هذا الأسبوع بعد أن فرغت من قراءة رواية لشكسبير، وأخرى للامارتين، وفي
ظني أن أوراق الورد يرجح عليهما بكثير في معانيه وبيانه
” (رسائل الرافعي،
ص:
254)، و”أنا
الآن أشتغل بتعب شديد في تنقيح أوراق الورد وتبييضه، وقد صح عندي بعد البحث أنه
لا يوجد في اللغة العربية رسالة واحدة ذات قيمة في هذا الباب من أول تاريخها إلى
اليوم
” (رسائل الرافعي، ص:
184)، ويقول: “كان عندي من يومين أديب سوري
اطلع على مقدمة الطبعة الثانية [من كتاب المساكين] فقال لي: أقسم بشرفي إن فيها
قطعاً أحسن من أحسن ما كتب فيكتور هوغو في بؤسائه
” (رسائل الرافعي، ص:
155)، و”لقد كتب لي أديب في مصر من أكبر
المخلصين لنا، وهو مطلع على الأدب الإنجليزي والأدب العربي يقول: أما كلمتك في
(فلسفة الأدب) فهي أوثق ما كُتب في هذا العصر في العربية وغير العربية
(رسائل الرافعي، ص:
237).

وإمعاناً في التسويق وإيغالاً فيه يوحي إلينا أنّه إذا
تناول موضوعاً فيأتي فيه بالقول الفصل، ويقتله قتلاً فلا يجوز لغيره أن يتحدث حوله
من بعد، “إنّ مقالة شوقي كان لها أثر بعيد، حتى إن نقولا الحداد كتب لي أنه لا
يجوز أن يقرأ عن شوقي أو أن يكتب أو ينشر غير هذه المقالة
” (رسائل
الرافعي، ص:
246).
“وقد أخبرني أمس أحد المحررين في الصحف وهو
يعرف الفرنسية جيداً أن رسالة القمر لا نظير لها مع كثرة ما كتب الفرنسيون
عن القمر ووصفه” (رسائل الرافعي، ص:
188)، و”إني أحمد الله على هذا الكنز [كتاب
أوراق الورد] وتوفيقي إليه، فليس في العربية كلها ما يشبهه” (رسائل
الرافعي، ص
: 170)، و”الإجماع في مصر كما علمت أن هذا الكتاب نادرة، وشوقي
أول المعجبين به، والمتكلمين عنه في المجالس
“. (رسائل الرافعي، ص:
188)، و”قد قال لي أستاذ في مصر إنه سيأتي وقت تصير فيه هذه
الكتابات في العربية مقابلة لكتابات شكسبير في الإنجليزية
” (رسائل
الرافعي، ص:
172).
و”كنت في مصر من أسبوع وقابلني طالب دار العلوم
الذي كتبتُ له مقدمة امرئ القيس فرأيته متهوّساً برسالة القمر، وقال: إنّ
كل الأدباء والشعراء رأوا القمر من أيام الجاهلية إلى الآن فأين ما كتبوه) (رسائل
الرافعي، ص:
187). وحقيقةً إن المتهّوس الحقيقي والأصلي هو
الرافعي نفسه الذي يلهج بمدح إنشائه، ويولع بحمد بيانه، ويخترع القائلين المبهمين،
وينسب الكلام إليهم في رسالته التسويقية التي لا تكل ولا تمل.
والمفاجأة القاصمة أنّ ما كتبه الرافعي عن كتاب (أوراق
الورد) هو من تهوّساته ومبالغاته التي تضخّم وتهوِّل وتعلي وترفع وتهوِّم في عالم
بعيد عن الصدق والواقع، لسبب بسيط جداً وهو أن الرافعي كان في طور كتابة الكتاب
وتحضيره للطباعة، نعرف ذلك من تواريخ الرسائل السابقة لتاريخ طباعة الكتاب والتي
أوردنا نتفاً منها، فكان يروِّج له بكل هذه المقدمات والدعايات التمهيدية، التي
تتحدث عن افتتان الناس

به
ولهجهم بإعجازه، أما لحظة
الواقع الصادق فقالت إن هذا الكتاب هو كتاب من جملة الكتب لا أكثر ولا أقل، ولذلك
سنرى الرافعي في لحظة الصدق أقرب إلى الانهيار! يعترف بالحقيقة المرة، رغم كل
الشطح الذي مارسه في الترويج والإشهار: “وأنا منذ صدور أوراق الورد في ضيق
من النفس وضجر! ولا همّة لي في شيء، ويخطر لي أن أترك الأدب وإراحة نفسي،
والاقتصار على المطالعة
” (رسائل الرافعي، ص:
198). كل ذلك
لأن الكتاب لم يلقَ الأثر الذي طنطن له، ودندن به، لكنه سرعان ما سيؤوب إليه رشده
ليستعصم ويتماسك ويعلن: “أنا أعتقد الآن أنه لا يوجد من يكتب مثل هذا الكتاب،
فلا يعنيني تقريظ أحد” (رسائل، ص:
195)، وفعلاً
كان الرافعي لا يعنيه تقريظ أحد، لأنه إذا لم يجد من يقرظه فإنّه كان مستعداً
للتزوير واختلاق المقرظين الذين يُسلكهم في ماكينته الإعلانية شاؤوا أم أبوا.
إنّ المنزلة التي حظي بها الرافعي لم تكن عاقبة
إنتاجه الأدبي فحسب، ولكن حصيلة ضروب تسويقه نفسَه التي تتدرّج من المبتذل إلى
الأكثر ابتذالاً
، وكنّا
سنغض النظر عن مَينه وانتحاله، لو أنّ ذلك لم يتكرر منه، بل لو أنّه لم يغدُ
طبيعةً ثانية بالقياس إليه، فهذه التهوّسات التي ألمحنا إليها لم تكن سوى طلائع
وإرهاصات لما سيرافقه طيلة مشواره الأدبي
.
في سنة 1911 أصدر الرافعي الجزء الأول من كتاب (تاريخ
آداب العرب)، فتقبله الأدباء بقبول حسن، وكُتبت عنه المقالات في الصحف، ولكن ذلك
لم يروِ المولع بالثناء يعبده عبادة، لذلك قصد إلى جريدة المؤيد، “فلقي هنالك
صديقه المرحوم أحمد زكي باشا، الملقب بشيخ العروبة، فأهدى إليه كتابه، ورجاه أن
يكتب فصلاً عنه، فقال زكي باشا: وماذا تريدني أن أكتب؟ قال الرافعي: تقول وتقول.
قال زكي باشا: فاكتب ما تشاء، وهذا إمضائي، وجلس الرافعي إلى مكتب في دار الجريدة
فكتب ما شاء أن ينسب إلى صديقه في تقريظ كتابه، ثم دفعه إليه فذيّله باسمه ودفعه
إلى عامل المطبعة، وقرأ الناس في اليوم التالي مقالاً ضافياً بإمضاء أحمد زكي باشا
في تقريظ (تاريخ آداب العرب) شغل الصفحة الأولى كلها من الجريدة، لكن أحداً من
القراء لم يعرف أن كاتب هذا المقال هو الرافعي نفسه يثني على كتابه ويطري نفسه

(حياة الرافعي، ص:
317).
ومن هنا ندرك أن ما تداوله الناس من إطراء شيخ العروبة
بقوله: “لقد جعلت لنا شكسبير كما للإنجليز شكسبير، وهوجو كما للفرنسيين
هوجو، وجوته كما للألمان جوته
“! إنْ هو إلا كلام الرافعي نفسه عن نفسه،
الذي ما فتئ يشيعه دائماً في حالة تخالس وانتهاب للمدائح والإطراء، فهو، كما
رأينا، أفضل من طاغور، أفضل من لامارتين، أفضل من برجسون، أفضل من هوغو، أفضل من
شكسبير، أفضل من كل أديب دبَّ ودرج على وجه هذه البسيطة. ولذلك لن نعجب حين نراه
متذمِّراً متنمراً، لعّاناً طعّاناً، لأن الأمة لا تعرف حقه، ولا تنزله منزلته:
(ألا يجوز للإنسان أن يلعن هذه البقعة وأهلها بعد أن يرى كلامه أرقى من
كلام برجسون
، ثم لا يرى لنفسه شيئاً من البرجسة ولا رائحتها) (رسائل الرافعي،
ص
: 154).
وهذا التزوير على لسان شيخ العروبة سيثير ريبتنا في جميع
المدائح الفائقة التي انهمرت على الرافعي من ألسنة كبار شخصيات الأمة كالإمام محمد
عبده، وسعد باشا زغلول، وسوف يدور نقاش حامي الوطيس حول ذلك بين العقاد والرافعي
(انظر: على السفود، ص:
160)، وسيدّعي العقاد أن الإمام محمد عبده لم
يكن يعرف الرافعي، وسيدعي كذلك بأن كلمة سعد زغلول في حق الرافعي هي من نسج
الرافعي، وسيجيبه الرافعي بأن رسالة تقريظ الإمام هي بحوزته وبخط يد الإمام نفسه، والتي
يرد فيها: “وأسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفاً يمحق الباطل، وأن يقيمك
في الأواخر مقام حسان في الأوائل”! والعجيب أن يصدر مثل هذا الإطراء من
الإمام محمد عبده للرافعي وهو في أول حبوه الأدبي، لم يصدر له شيء يدل على نبوغ أو
تفوق، وسيدّعي الرافعي أنّ الإمام كتب هذه الرسالة بعد صدور الجزء الأول من ديوانه
الشعري، ولكننا سنلاحظ أن تاريخ الرسالة هو
5/شوال/ 1321 هـ، قبل صدور الديوان بسنة، ولذلك لن نستبعد هنا ألبتة أن يكون
الرافعي قد زوّر هذه الرسالة واختلقها، وغفل عن إحكام تاريخها فجعله قبل صدور
الديوان لا بعده، ولا سيما أن له سابقةً في التزوير على لسان الإمام نفسه، فقد
حدّث صديقه وتلميذه المقرّب سعيد العريان في لحظة نشوة وافتخار وسخرية ممزوجة
بالغفلة بأنّه زوّر مجلساً كاملاً من مجالس الإمام واخترعه اختراعاً بحيث لا يشك
القارئ في أنه من كلام الإمام، ونشره في مجلة (البيان) لصاحبها البرقوقي. (حياة
الرافعي، ص:
323).
ويستمر الرافعي وقد بلغ الأربعين من عمره في ألاعيبه
التي تستسهل المبالغة والتلفيق والانتحال في سبيل تسويق الذات والدعاية لها، ففي
سنة
1919 ستُقام مسابقة لاختيار أجمل نشيد لمصر،
وسيفوز فيها شوقي، وستثور ثائرة الرافعي وسيشكّل، نكايةً باللجنة الأصلية، لجنة من
أصدقائه، وسيعلنون أن نشيده هو الفائز، وسيطبع كتيباً عنوانه (النشيد المصري
الوطني)، وسنقرأ على غلاف الكتاب: “النشيد الوطني المصري وضعه نابغة كتّاب
العربية وزهرة شعرائها مصطفى صادق الرافعي
، وما كتبه عنه أساطين البيان وفحول
السياسة. الطبعة الأولى أكتوبر
1920“.
ولدى رجوعنا لكتاب النشيد الذي تعد صفحاته 31 صفحة سنجد ثلاث مقالات: لأمين الرافعي، ومحمد صادق عنبر، وحافظ بك
عامر المحامي، فهؤلاء هم أساطين البيان وفحول السياسة، الذين ارتضوا أن ينشر
الرافعي مقالات باسمهم وينسبها إليهم! وسيشير سعيد العريان لذلك فيقول: “إنّ
أكثر المقالات التي يراها القارئ في الكتيب الصغير الذي نشره الرافعي عن نشيده
(اسلمي يامصر) هو من إنشائه أو إملائه” (حياة الرافعي، ص
:
323)، على أن كلام العريان يوحي بأن الكتاب يضم
عدداً كبيراً من المقالات، في حين أنها ثلاث مقالات فقط.
إنّ ما رامه الرافعي من تسويقه قد آتى أكله، وغدا الناس يتداولون
أن الرافعي لا يشق له غبار في وضع الأناشيد، حتى رأينا سعيد العريان ذاته يقول:
(ويقيني أن اسم الرافعي إذا كُتب له الخلود بين أسماء الشعراء في العربية فلن يكون
خلوده وذكره لأنه ناظم ديوان، أو ديوان النظرات، أو المدائح الملكية في المغفور له
الملك فؤاد، أو قصائد الحب والغزل بفلانة وفلانة من حبائبه الكثيرات، ولكنه سيخلد
ويذكر لأنه شاعر الأناشيد) (حياة الرافعي، ص:
84).
أما جميع أناشيده التي اطلعت عليها فلم يكن لها من عالم
النشيد المميّز نصيب، غير أنّ الدعاية الرهيبة التي مارسها الرافعي في تلك الآونة
على بني جلدته المساكين جعل العريان ونظراءه يقولون ما يقولون، ولعل من أطرف هذه
الأناشيد الساذجة نشيد المدرسة:
مجداً مجداً
مدرستي        مدرستي مجداً مجداً
عن علمي عن
تربيتي     مدرستي حمداً حمداً
والأطرف من ذلك أن هذا النشيد لم يكن موزوناً على بحور
الشعر المعروفة، فقال الرافعي إن هذا بحر جديد، واخترع له اسم: (طبل الحرب)!! وهي
تسمية تليق بنشيد (الكلية المدفعية)، وليس بنشيد (المدرسة) التي تضم بسمات قلوبنا،
ونسمات أرواحنا وأكبادنا، أما صاحب المقطم يعقوب صروف فيمدّه في هذيانه ويشير عليه
، وكأنه يسخر منه، أن يسميه (البحر المنفجر)!! وهي تسمية يُطرب لها
الرافعي رغم أنّها أشد هولاً من التسمية الأولى وأكثر فظاعة.
(يتبع)

محمد أمير
ناشر النعم
المصدر: https://www.syria.tv/content/الجانب-الآخر-لمصطفى-صادق-الرافعي-المندهش-من-نفسه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *