العيش في الإصطبل

 صديقي (رومكه فان دي كا) عالم نبات
هولندي، ومؤلف كتب وكاتب مقالات حولها
.
يسكن في مزرعة قرب أمستردام هو وزوجته
أدريانة في حياة أشبه ما تكون بحياة آدم وحواء قبل أن يهبطا فيتعتران ويعتران
.
في ستينات القرن الماضي شاهدا اصطبل خيل
دمرته الحرب العالمية الثانية، فجالا في أرجائه وتمعنا في نواحيه، وأرجعا البصر
كرتين وثلاثة وأربعة، وقررا شراءه من الدولة الهولندية لاتخاذه مسكنا، فوافقت
الدولة على بيعه لهما والمساهمة في تكاليف ترميمه شريطة عدم المساس بمعالمه
والمحافظة عليها محافظة تامة، مع وجوب فتحه يومين في السنة للزوار باعتباره معلما
سياحيا أثريا، لأن بناءه يعود إلى أوائل عصر النهضة في القرن السابع عشر
.

رمم الزوجان الإصطبل، وحافظا على معالمه،
وحين رفعا ما تهدم من أنقاض ظهرت الأرضية الحجرية البازلتية الأصلية للإصطبل
فحافظا عليها، ولم يقلعاها ليستعيضا بها البلاط الحديث من المرمر أو السيراميك، بل
عاشا في هذا المنزل عشرات السنين وأرض البيت أشبه ما تكون بأرض الشارع وبلاط
الشارع
.

في مثل هذه الحالات لا يمكن أن تقسر ذهنك
على عدم المقارنة، فهذا مما لا تنفع معه الحيلة مهما أوتيت من فنون التحكم
بالخواطر، بل ستقفز إلى الذهن شئت أم أبيت بيوتنا الحلبية العربية الأثرية القديمة
التي يعد كل واحد منها تحفة أثرية بكل معنى الكلمة، غير أن معظم أرضياتها ببلاطها
الحجري الأصفر أو الأبيض الرائع طمر تحت بلاط حديث رخيص بدافع من شكاية الزوجات
اللواتي كن يشعرن بالتضاؤل والامّحاق أمام الأسر التي سكنت الأحياء الجديدة
والبيوت الجديدة التي تزدان أرضياتها بالبلاط الأردني (كان موضة في أيام
السبعينات، ويمتاز بقطع المرمر الكبيرة ذات اللون الأخضر الغامق)، ثم بالبلاط
الرخامي البدروسي، (نسبة إلى البدروسية على الساحل السوري)
.
ولا تكاد تخلو عائلة حلبية من مظهر من
مظاهر هذا التفريط، ومن عدم معرفة القيمة، والاستهتار بها، ولا زال الحزن يعتريني
كلما تذكرت بيت جدي في قسطل الحرامي ، وكيف فرطنا به، وزهدنا فيه. أما خالي الأول
فغادره وسكن في شارع النيل، وأما خالي الثاني فصبر عدة سنوات ثم انتقل إلى منزل في
شارع تشرين الذي يعد امتدادا لحي السبيل، وباع بيت جدي للشيخ أحمد حسون الذي سيغدو
مفتي الجمهورية، والذي فرط بالبيت كذلك فباعه وانتقل إلى حي الفرقان الجديد، أما
عجبي الذي لا ينقضي فهو عندما أتذكر الشيخ عبد الله سراج الدين شيخ مشايخ حلب ،
والحلبي الأبرز فيها كيف انتقل من بيته العربي القديم الأصيل في حي البياضة المطل
على قلعة حلب مباشرة إلى حي الفرقان، الحديث النشأة والتكوين، على أني لا زلت أذكر
ذلك البائس الذي غادر إخوته الميسورون بيت العائلة في الفرافرة، وظل مع عائلته
فيه، وتنازل الإخوة له عن نصيبهم فيه، غير أنه وزوجته ظلا يشوحان وينوحان بأنه
يسكن في خرابة، وأنه يسكن بيتا قديما كبيرا مهترئا فيه إحدى عشرة غرفة ولا يعرف ما
يفعل بها، فبادل ببيته هذا منزلا في سيف الدولة ذي ثلاث غرف، ولم تمض سنوات قلائل
حتى فاق سعر بيته القديم المرذول المستقبح سعر بيته الجديد أكثر من عشرين ضعفا
.

إنها قصة بلد كامل، ووعي شعب كامل، زهد
في تراثه المادي والمعنوي، وحين صحا على قيمته كان قد انسرب من بين يديه وضاع أمام
عينيه بمحض الجهل، وفقدان المعنى والقيمة، وإنعدام زكانة التقييم
.
أما خالص الغباء الذي ظنناه شطارة فكان
يوم حولنا منازلنا الأثرية إلى ورشات خياطة، وإلى ورشات صناعة أحذية، و إلى
مستودعات للبضائع، في الجلوم، وفي باب قنسرين، وفي باب الحديد، وفي قسطل المشط،
وفي الجديدة، وفي السيد علي، وفي البندرة، قبل أن ننتبه إلى أنها يمكن أن تغدو
مطاعم وفنادق، و بؤر جذب سياحي من الطراز الأول
.
أما صديقي رومكه فقد حول الإصطبل إلى
منزل وعاش فيه بعيدا عن الضوضاء والصخب….. فغدا الإصطبل جنته التي ما زال يعيش
فيها، و يتنعم بخيرات مزروعاتها وأشجارها. وكان من أطيب أوقاتي هي تلك الفترة
المباركة التي قضيتها في ضيافته منذ أسبوع خلا ، بصحبة صديقي وإشبيني عبد الباسط
إبراهيم

Abdul Ibrahim
الذي
عرفني رومكه قبل ثلاث سنوات ، في إسطنبول عندما استضفته في بيتي فاستمتعنا بالصحبة
المرحة ، واستعدنا أجواء حلب وأطيافها بأكلنا (الكبة بسفرجلية) التي أزعم أنني
أجيد تحريرها، ولاسيما أن (ماين هووبي) هو الطبخ كما أكتب في السيرة الذاتية
الألمانية دائما
.
ومنذ أسبوع كان من المقرر أن نلتقي
بصديقنا

Fayez Noury
فايز
النوري القادم من نيويورك إلى أمستردام لحضور معرض تكنولوجيا الاتصالات ، فلما علم
رومكه بمقدمنا أصر هو وزوجته على أن يكون لهما نصيب من هذه الزيارة ، بأن نقضي،
نحن الثلاثة، أيامنا الأمستردامية في ضيافتهما ، وأرسلت أدريانة بعد الاتصال
الهاتفي إلى عبد الباسط إيميلا تؤكد الدعوة مرة أخرى، بعبارات فيها من الذوق
واللطف ما في الزهرة الشذية الفواحة من رحيق وعبير
.
قضينا عندهما يومين كانا من أطيب أوقاتنا
وأمتعها بدءا من الاستقبال الحار الذي ذكرنا تماما بحرارة استقبال عائلة حلبية
راقية محبة، وانتهاء بالوداع المتلهف لتكرار اللقاء
.
ولأننا حلبيون فقد اختارت أدريانة اللحمة
بكرز طعاما للعشاء ، وكانت قد تعلمت تحضير صلصة كرز الوشنة حين زارت حلب قبل حوالي
عقد من الزمان، مع فارق بسيط في اللحم، فبدلا من أن يكون كبابا مشويا كان من شرائح
لحم البط المقلية
😊 😊

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *