القصاب الذي خدعني

في سنة 1996 بعد سنة من سكني في مدينة
أريحا ألحّ عليّ أصدقائي فيها أن أترك خطبة الجمعة في بلدة دارة عزة، وأن أخطب
الجمعة في مدينة أريحا، لا سيما وأن خطيب جامع الشيباني الأثري سيتركه ويلتحق
بالخدمة العسكرية الإلزامية.

وافقت واستلمت الجامع وبدأت الخطابة فيه. في تلك
الأثناء كان قصابي المعتمد هو أبو الخير البو رحمه الله وأجزل له المثوبة، وكان
مختصاً بالخروف، لذلك فإنني يوم أردت أن أشتري هبرة العجل لصنع (الكبة بصينية)
يممت وجهي نحو الصيباطات والسوق المسقوف فهنالك معظم قصابي العجل، ويومها لم أكن
قد تعرفت على أولاد البربور: الحاج رضوان والحاج يوسف.

وبينما كنت أسير بين محلات القصابة أتفرس
في وجوه القصابين وفي مدى نظافة محلاتهم حتى أختار واحداً منهم خرج قصاب ستيني
وفتح ذراعيه كأنه يسوع المسيح بنسخته الريحاوية مرحبا بي ووجهه يتهلل بِشراً.
ــ أهلين بالأستاذ. نورتنا يا أستاذ. يا
حلت علينا البركات. شلونك أستاذ؟ طمنا عنك؟ إن شاء الله تمام؟
قلت في نفسي: هذا أول واحد في السوق من
القصابين ينتبه إلى أنني خطيب جامع الشيباني الجديد… ولا غرو فجامع الشيباني
قريب جداً من هذا السوق بل محاذِ له.
نظرت في وجه هذا القصاب وكانت عيناه
صغيرتين فيهما مسحة ثعلبية، ولكن ابتسامته الواسعة وسع طريق أوتستراد حلب اللاذقية
الذي لم نهنأ به بسبب اندلاع الثورة، جعلتني أتجاوز عن صغرهما، وخلال ثواني جالت
ودارت كل الاحتمالات في ذهني:
١ ــ ربما كان من بيت البو أيضاً… إنهم
جميعاً يعرفونني ويوصي بعضهم بعضاً بي.
٢ ــ لعله كان متعلماً، ويقدّر أنني
الخطيب الوحيد الذي لا يلحن في كلامه فلا يرفع ويجر وينصب كما شاء له الهوى.
٣ ــ من المحتمل أنه فُتن في توثيقي
للأحاديث التي أذكرها في أثناء الخطبة، فأنا أحرص دائماً على إيراد الأحاديث
الصحيحة، وأذكر مصادرها بدون استفاضة، ولكن المطلع يعلم بأنني مساهم في الصناعة
الحديثية.
٤ ــ بعدين مواضيعي!!! مواضيعي كتيير
مهمة، وعصرية كمان!!
٥ ــ لكن يظل الاحتمال الأكبر أن يكون
هذا القصاب ناصرياً. فمعظم أهالي أريحا ناصريون، ومعارضون، و واضح من خطبتي أني
لست مؤيداً و لا مطبّلا ولا مزمّراً. لذلك أكيد هذا القصاب أحبني لهذا السبب.
صحيح أن معظم القصابين والجزارين في بلدي
بعثيون، ولكني لا أعمم. بل ولا أستغرب أن يكون في أريحا قصاب ناصري، فأنا أعرف
فيها مستخدما (آذن مدرسة) ناصرياً، وكذلك بائع خضار ناصرياً. فلم لا يكون هذا
القصاب ناصرياً أيضاً. ليس هذا على الله بعزيز.
ـــ يا حلت علينا البركة. نورت المحل يا
أستاذ. أمرني يا أستاذ. شو طلبك.
ــ بدي كيلو هبرة عجل لو تكرمت.
ـــ مو بتأمر أمر. اعتبر المحل محلك يا
أستاذ. نورتنا.
خاطبت نفسي: فعلاً أنا إنسان مهم ومحبوب.
انظر إلى هذه الحفاوة. ضروري أستمر في خطبة الجمعة. لولاها من أين كنت سأحصل على
هذا الاكتناف؟
مد القصاب ذو العينين الصغيرتين يده إلى
قطعة كانت موجودة على دفة الفرم، ورماها في الميزان.
لكنها لم تعجبني.
قلت له: لا أريد هذه القطعة.
وبضحكة واسعة ظريفة قال لي: الله يسامحك
يا أستاذ. هذه من عجل صغير لم يُفطم. الله وكيلك عم أحط لك فستق مو لحمة.
قلت: لا بأس. ولكن أرجو أن تقطع من هذه
الناحية، وأشرت إلى العجل المعلق.
قال: ولكن التي وضعتها أفضل يا أستاذ.
صدقني.
قلت: أنا مصدقك، ولكن أحب أن تقطع لي من
هذه الناحية.
خفت الابتسامة الأوتسترادية وتقلصت إلى
ما يشبه شارع فرعي ضيق. ولكنه ظل مبتسماً، وقال لي أمرك يا أستاذ… أمرك.
عندما انتهى من خفق اللحمة، ووضعها في
الكيس سألني، وأنا أناوله النقود: صحيح هذه أول مرة أراك فيها. منين الأخ؟ من حلب
أم من إدلب؟
محمد أمير
ناشر النعم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *