ليف نوسيمباوم: اليهودي الذي أسلم، واستعصى على التصنيف





في الأسبوعين الماضيين أُعيد تسليط الضوء على الكاتب
اللغز ليف نوسيمباوم (
1905 ــ 1942) بمناسبة
انعقاد معرض فرانكفورت للكتاب من
10 إلى 14 / 10/ 2018. فقد كان
ضيف المعرض، لهذا العام، جورجيا البلدَ الذي ينحدر منه ليف مؤلف (علي ونينو) رواية
الحب الخالد بين الشاب الأذربيجاني المسلم سليل الأسرة النبيلة، والفتاة المسيحية
ابنة أحد الأرستقراطيين والأمراء الجورجيين في أواخر الحرب العالمية الأولى، وبفضل
هذه الرواية أُتيح لجورجيا وأذربيجان الدخول إلى قائمة البلدان والأمم التي تملك
أساطير عشاقها الملهمين الذين يحدوهم عشقهم لتحدي الدوائر الضيقة، والمصائر
المرسومة سلفاً، وتجاوزهما، وتحقيق ما لا يجرؤ عامة الناس على تجاوزه! فالإنكليز
والإيطاليون لديهم (روميو وجوليت)، والعرب (قيس وليلى)، والفرس (خسرو وشيرين)
والكرد (مم وزين)، والإيرلنديون والألمان (تريستان وأوزولده)، وبفضل ليف غدا لدى
الآذريين والجورجيين (علي ونينو).



ولد ليف لأبوين يهوديين، أب برجوازي من جورجيا استثمر في
آبار النفط في باكو، وأم يسارية متطرفة من روسيا البيضاء انتحرت عندما كان ابنها
الوحيد في الخامسة من عمره، فاستأجر الوالد مربية من أصل ألماني لتعتني بالطفل
وترعاه. نشأ الطفل في باكو عندما كانت المدينة تستمتع بأول طفرة نفطية لها، وتربى
في عيشة رَفِلة، وبيت ثري، فيه مكتبة ضخمة كانت جنته الأثيرة في زمن الطفولة
واليفاعة، وارتاد المدرسة الروسية في باكو إلى أن تخرج منها، ومع نهاية الحرب
العالمية الأولى، ودخول البلاشفة إلى أذربيجان فرّ مع والده في قافلة من الجمال
عبر السهوب والصحارى إلى بلاد فارس، ثم إلى تركستان [تركمانستان]، ثم عادا إلى
باكو ليفرّا منها مرة أخرى  سنة
1920 عبر القوقاز وصولاً إلى القسطنطينية، أولاً ثم باريس ثانياً، حيث مكثا
فيهما على التوالي، ثم حطا سنة
1922 رحالهما أخيراً في برلين، وهنالك التحق ليف بمدرسة ضمت الصفوة
من أبناء الروس، وتشكلت صداقاته المتينة مع النخب التي ستقود عالم الفن والفكر
والأدب من أمثال: أناتول سادرمان، وباسترناك، وناباكوف، وفافا برودسكي زوجة مارك
شاغال، وفي هذه السنة نفسها، وقبيل انهيار الإمبرطورية العثمانية دلف إلى سفارتها
في برلين، وأعلن فيها إسلامه، وحصل على وثيقة رسمية بذلك، وغدا اسمه أسعد بيك.



وخلال السنوات القليلة اللاحقة انهمرت كتاباته بشكل لا
يُصدّق، وفاجأت الجميع بموهبة الملاحظة، ودقة التعبير! و
نشر في المجلة الألمانية
الأكثر رصانة (عالم الأدب) أربعاً وأربعين مقالة، وهو لم يتجاوز سن الثامنة
والعشرين، وكتب كتباً كثيرة، وبغزارة جعلته يبدو شخصاً غير حقيقي
،
إلى درجة أن تروتسكي كتب سنة
1931 لابنه من
منفاه: “من هو هذا الأسعد بيك”؟
تخصص أسعد في كتابة السِّيَر. كتب سيرته أولاً في كتاب
(الدم والنفط والشرق)، ثم كتب سِيَر القادة المشاهير في عصره: ستالين، ولينين،
ونيقولا الثاني، ورضا شاه، وعبد العزيز آل سعود، وسيرة النبي محمد، بالإضافة إلى
كتب أخرى: (روسيا البيضاء: شعب بلا وطن)، و(روسيا عند مفترق طرق). إلخ.
لقيت هذه الكتب رواجاً هائلاً، وحققت نسب مبيعات هي
الأعلى،
وحجز أسعد بيك لنفسه مكانة مميزة في عالم الأدب الأوروبي
التنافسي بالكتابة عن المواضيع البكر التي لم يعرفها الغربيون بشكل عام، عن
القوقاز، والإمبراطورية الروسية، والنفط المكتشف حديثاً، أو عن المواضيع التي تزيد
مخاوفهم من الثورة البلشفية، بتناول جرائمها، وجرائم زعمائها ممن عرف بعضهم بشكل
شخصي، مثل ستالين الذي التقى به في جورجيا عدة مرات، وعنون كتابه عنه بـ (ستالين:
مهنة متعصب)، وسيغدو نجم وسائل إعلام جمهورية فايمار في ألمانيا، والرجل الأشهر في
صحف التابلويد في نيويورك ولوس أنجلس، حين وصوله على متن إحدى السفن، إلى نيويورك
عام
1935، وعندما
سيلقي محاضرات سيحضرها كبار المفكرين والأدباء من أمثال الأديب العظيم ستيفان
تسفايغ، وسواه.
لكن ستبقى
روايته (علي ونينو) هي درة التاج من بين مؤلفاته، وقد نُشرت أول مرة باللغة
الألمانية في فيينا سنة
1937، باسم
مستعار هو قربان سعيد، لأنّ الحكومة النازية في ألمانيا اكتشفت أنّ المؤلف المسلم
أسعد بيك الذي كانت توصي بقراءة كتبه لتثقيف الشبيبة الألمانية ما هو إلا اليهودي
ليف نويسمباوم، وغداة هذا الاكتشاف طُرد من اتحاد الكتّاب الألمان، وحُظرت كتبه
ومقالاته، وعندئذٍ اضطُر ليف أو أسعد بيك إلى الإقامة في فيينا، والكتابة باسم
مستعار، ليتفادى هذا المنع النازي المخزي والمجحف. وعلى الرغم من كون الرواية 
بحسب
الظاهر رومانسية فإنها كانت في العمق تمور بالرؤى والأفكار والمقاربات ما بين
الشرق والغرب، وتذخر بالحديث عن الجغرافيا السياسية، ناهيكم عن المسحة
الأنثروبولوجية في وصف ثقافات مناطق إيران والقوقاز وعادات أهلها وأساطيرهم، ومدى
تشبثهم بأصولهم، وكيف يأتلفون ويختلفون، ويتعايشون ويتصارعون. ودور المرأة
ومكانتها بين عالمين مختلفين متقابلين، ولن نعدم في أثناء ذلك تناولاً مقتضباً،
وإشارات مكثفة ذات مصداقية لبعض الأديان الحديثة كالبهائية، أو الموغلة في القدم
كاليزيدية، ومن أجل ذلك وصفت دير شبيغل الألمانية هذه الرواية في معرض حديثها عن
معرض فرانكفورت الأخير للكتاب: “رواية مدوية ومفاجئة تريد أن تفاجئك في كل
جملة، وإعلان محبة لمنطقة عالمية: قوامها ورائحتها ومخاوفها وقيودها وتناقضاتها
.
ولدى قراءتنا هذه الرواية، سيلوح لنا أنّها لم تكن تحكي
إلا عن ليف نفسه أولاً وبالذات، عن عوالمه الروحية والفكرية والنفسية، فليف الفتى
اليهودي الجورجي ذو الأفق الغربي ابن (الغابة) هو في حقيقة الأمر نينو نفسها
بفهمها ومقولاتها ورؤاها، ولكن ليف أيضاً منذ بادئة أمره ويفاعته كان ذا ميل إلى
الشرق والإسلام، ومتوجّهاً إلى قراءة الشعر العربي، وكان يعيش في باكو الحاضرة
الإسلامية التاريخية الراسخة، ويتنفس روحها وعبقها وتاريخ مساجدها وخاناتها، فهو
منذ تلك الأيام كان أسعد بيك الشرقي المسلم ابن (الصحراء)، وبهذا الاعتبار عبّر عن
خلجات نفسه وما يعتلج في جوّاه من خلال علي.



لقد كتب هذه الرواية وهو في النمسا، والهولوكوست تشق
طريقها لتلتهم الآخر المختلف، لكنه قال من خلال ذاته، ومن خلال روايته مواجهاً
الهولوكوست وفلسفتها: أنا الآخر، والآخر أنا، أنا علي وأنا نينو. أنا الخليط من
الميراث العثماني الفارسي المسلم، والقيصري الأوروبي المسيحي، وميراث مملكة الخزر
اليهودية القديمة وعشائر الصليبيين الذين تشتتوا في أنحاء القوقاز. لذلك رأيناه
عندما
كتب عن ستالين كان جورجياً، وعندما كتب عن نيكولا الثاني كان روسياً، وعندما كتب
عن رضا شاه كان فارسياً، وعندما كتب عن النبي محمد كان مسلماً، و
سنفهم
لماذا ظل طوال عمره أشبه باللغز والأحجية والمعمّى، فالناس لم تعتد أن يكون لدى
الإنسان هذا الفائض الرومنتيكي في شعور الانتماء،
مع وصف ما يراه
بصدق، وتأدية ما تفضي به خبراته بأمانة.
أما المسلمون اللاجئون في ألمانيا، فسيعدّونه مستشرقاً،
لا مسلماً حقيقياً، لأنه يشوِّه صورة الإسلام والمسلمين حين يتكلم عن المثلية
الجنسية في بلاد فارس، ويشكك في الأخلاق الجنسية في تلك البلاد! علماً أنه حتى
لحظات حياته الأخيرة ظل معتزاً بإسلامه، وحين توفي دُفن على الطريقة الإسلامية،
ونُحتت عمامة على شاهدة قبره على الطريقة التركية الإسلامية، وأما الأجنحة
اليسارية الألمانية الموالية لليسار الشيوعي فستسلقه وتقليه لتصويره القادة
السوفييت سفّاحين، والثورة السوفييتية مجرمة. وأما اليهود المتعصبون فسينظرون إليه
بازدراء باعتباره ذلك الولد المأفون،
ولذلك سوف نراهم جميعاً متضافرين في
وصفه بالمدلس، والأفّاك، وسيشككون في كلامه وتجاربه وقصصه وحكاياته!!

كلٌّ من باعثه الخاص، ومأتاه المختلف.



ولكن سوف يقيّض لهذه الشخصية باحث استقصائي مذهل هو توم
ريس، الذي رصد حياة ليف وأعماله، وتتبع جميع الأماكن التي نشأ فيها أو زارها،
وصولاً إلى أشخاص عرفوه شخصياً والتقوا به، وإلى سجلات الشرطة السرية، وإلى
الاطلاع على أكثر من
300 رسالة من
رسائله، فضلاً عن مذكراته وملاحظاته المرقومة في ستة دفاتر كتبها ليف بخط يده قبيل
وفاته بمرض دم نادر يسبب الغرغرينا وهو في مدينة بوستيانو الإيطالية التي فرّ
إليها من فيينا عندما ضمت ألمانيا النازية النمسا
إليها سنة 1938. وبعد خمس
سنوات من هذا البحث والتتبع أصدر
توم ريس سنة 2005 كتابه
المعنون بــ
(المستشرق: فضّ غموض حياة غريبة وخطيرة) في ستمئة صفحة، ومباشرة
ظهر الكتاب في العديد من
قوائم “العشرة الأوائل“، وحقق أيضاً أعلى نسب في
المبيعات، و
تمت ترجمته إلى أكثر من عشرين لغة كانت آخرها
اللغة العربية سنة
2017.
يقول توم ريس: “غير أنّ
أعواماً من جمع كل قصاصة تحمل دليلاً تمكنت من
التوصل إليه عن
حقيقة حياته أظهرت أنّ، كل العناصر التي تبدو غريبة وغير معقولة وصعبة التصديق عن
حياته، والحكايات والوقائع التي يرويها كان يتضح في الغالب بعد ذلك أنها حقيقية،
حتى لو لم تكن مستمدة مباشرة من خبراته وتجاربه الحياتية المدهشة، وقد تكون منتحلة
من خبرات وتجارب أفراد من عائلته أو أصدقائه”.
أخيراً! ألا يجدر بنا السؤال: لماذا لم تهتم المكتبة
العربية بهذا المستشرق وأمثاله؟
لماذا لم يرد له ذكر في معاجمنا ودراساتنا الاستشراقية؟
هل هنالك أشخاص مثله ما زالوا مجهولين بالنسبة إلينا؟
هذا ما سنجيب عليه في مقالات قادمة.
موقع: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *