ساعات قدري بين الكتب

هنالك
كتابان يحويان في عنوانيهما كلمة (ساعات)، الأول لشتيفان تشفايغ: (ساعات القدر في
تاريخ البشرية)، والثاني لعباس العقاد: (ساعات بين الكتب). وحقيقة إذا أردت الجمع
بين العنوانين على المستوى الشخصي قلت: (ساعات قدري بين الكتب)… لأن الكتب هي
المحطات التي شكلت قدري

ورسمته، وهي التي أمدتني بعصارة السعادة اللذيذة التي كانت
تجتاحني بكلي، حتى تصل لنقي عظامي وحتى
هذه اللحظة كلما أردت استعادة لحظات الوجد الأرقى والأنقى استذكرت شعوري في ميعة
صباي وأنا أشتري كتاباً، أو أقرأ مقالة، بدءاً من الصف الرابع حتى الصف السادس
الابتدائي أيام السيَر الشعبية: (سيرة عنتر بن شداد، سيرة بني هلال، تغريبة بني
هلال، سيرة سيف بن ذي يزن، سيرة الزير سالم، ألف ليلة وليلة)، والكونت ديمونت
كريستو، وعجائب المخلوقات وغرائب الموجودات للقزويني 
وفي
الصف السادس وقع في يدي كتاب (الاختيار لتعليل المختار) في الفقه الحنفي، فراعتني
غرابة الألفاظ والموضوعات، وأبهرتني متانة سبكها، فقررت الدخول إلى الثانوية
الشرعية حتى أدرس هذا الكتاب بالتحديد، غير أن الوالدة المفجوعة بابني أختيها
المساقين إلى سجن تدمر، (والمقتولين هناك فيما بعد) رفضت هذا الانتقال، لأن
الثانوية الشرعية، في تلك الآونة، كانت تُعد إحدى معاقل الإخوان المسلمين. فدخلت
الإعدادية العامة وكانت أيامها أيام التسكع أمام واجهات مكتبات (العبّارة)
و(الجميلية). حفظت أسماء جميع الكتب المرصوفة في واجهاتها، وفي إحدى المرات نالني
التعب من كثرة وقوفي أمامها، فدلفت إلى أقرب سينما، وكانت الكندي، واشتريت بطاقة،
ثم دخلت ونمت في مقعدي مدة ساعة، ثم خرجت وأكملت سياحتي. 

كان
الصف السابع والثامن، بمعية الأستاذ الرائع أحمد يحيى بوادقجي، هما صفي اكتشاف
مصطلح (الصورة الأدبية)، وكانت أيامهما أيام بداية تذوق الصور الأدبية، التي
ابتدأت مع كتب: الإنشاء السهل، وتيسير الإنشاء، وتطورت مع نصوص ميخائيل نعيمة
وغسان كنفاني، وعبد القادر المازني، وقصائد ابن الرومي. وكانت أيام (تاريخ الأدب
العربي) لحنا الفاخوري، وأحمد حسن الزيات، وأيام (الأيام) لطه حسين، وأيام أحمد
أمين في فجره وضحاه، وأيام مقدمة ابن خلدون، وآه من صعوبتها ولذة قراءتها في الآن
ذاته في تلك السن!! وقصص القرآن، وقصص العرب لأحمد جاد المولى، وشرح البرقوقي
لديوان المتنبي
وفي
الصف التاسع، وبمعية الأستاذ المميز حسن حسين، كان لكتاب (البرهان المؤيد) للسيد
أحمد الرفاعي الأثر الحاسم في رسم المصير، فقررت الالتحاق، مرة أخرى، بالمدرسة
الخسروية (الثانوية الشرعية)، وفي هذه المرة عارضت الوالدة أيضاً، غير أن شكيمتي
فاقت معارضتها مع مساندة خالي هلال قسطلي رحمه الله، الذي قال لأمي كلمة واحدة
جعلها توافق: (غداً سيمسك بيدك ويدخلك الجنة شفيعاً لك)، أما جدي أديب ناشر النعم،
فبارك هذا الالتحاق، وقال يومها: إن عائلة ناشر النعم لا يوجد فيها شيخ، وأنني
بذلك أسد ثغرة في هذه العائلة، وأضاف: والآن ينقصنا فقط في العائلة ضابط في الجيش.
وفي
الثانوية الشرعية (الخسروية) وجدت جنتي. كان أساتذتها خيرة الأساتذة، وعلى رأسهم
أساتذة أساتذتنا: العلامة الفقيه الحنفي محمد الملاح، والفقيه الشافعي محمد عبد
المحسن حداد، وأستاذ العقيدة الشيخ زين العابدين جذبة رحمهم الله جميعاً.
أما
مكتبتها فكانت تضم حوالي ثلاثة آلاف عنوان، تشمل جميع المعارف الإسلامية، وكان
الشيخ عمر مارتيني قد أوقف مكتبته النادرة لصالح الخسروية، وكانت كلها من نوادر
مطبوعات الآستانة وبولاق، وفيها معظم المتون والشروح والحواشي في معظم العلوم
الإسلامية.
ولعل
من أكثر تلك الساعات بهجة وسعادة هي يوم كنت في صف الحادي عشر، واشتريت من مكتبة
عبد الغني مقيد مقابل جامع القرناصية قبل عوجة السجن الكتاب الذي سيغدو سميري، إلى
حد الاستظهار، على مدار السنوات اللاحقة أعني: (كشف الظنون عن أسامي الكتب
والفنون) للمؤلف التركي حاجي خليفة، بمجلداته الستة الضخام بمبلغ 500 ل.س، وهذا
الكتاب هو قائمة ببليوغرافية ألفبائية بأسماء الكتب في الحضارة العربية الإسلامية
إلى زمن المؤلف الذي توفي في 1657م
.
كان
حاجي خليفة يورد اسم الكتاب، ثم اسم مؤلفه، ويتحدث عن أهمية الكتاب، وعن شروحه
ومختصراته إن وجدت، وفي أثناء ذلك كان يورد من المعلومات والفوائد والعبارات
والإشارات ما لا تجده مجموعاً في كتاب آخر… ويقال بأنه رصد حوالي عشرين ألف
عنوان في كتابه.
على
مدار أسبوع، من شرائي للكتاب، كنت كلما قابلت شخصا أظن أنه يهتم بالثقافة أخبره
أنني اشتريت (كشف الظنون)، أقول ذلك وأنا أطير فرحا وبهجة، وأستغرب لماذا لا يقوم
ويرقص كما كان يرقص أنطوني كوين في فيلم زوربا… فالكون كله كان يرقص معي في تلك
اللحظات
وتأثراً
بالشيخ عبد الله سراج الدين، رحمه الله، قررت أن أكون محدثاً، فامتلأت مكتبتي بكتب
الحديث الشريف، وبكتب مصطلحه ورجاله، وخلال سنتين قرأت كل ما يمكن تخيله من كتب
المصطلح، وحفظت المنظومات: (البيقونية)، و(غرامي صحيح)، وأجزاء من ألفية السيوطي،
وألفية العراقي
وكان
شاعراي المفضلان الرواس وأبو الهدى الصيادي، وكانت جميع دواوينهما موجودة في
المكتبة، وكانت معظم أناشيد المنشدين في الزوايا وفي الأعراس من نظمهما، وهكذا كان
اللحن الجميل ذي الديباجة المتينة يدعم الكلمات الرائقة، وكانت الكلمات الرائقة
تدعم اللحن الجميل، وفي سنة ١٩٨٦ اشتريت من مكتبة الشيخ عمر زيتوني طبعة عثمانية
حجرية من كتاب نتائج الأفكار شرح العوامل للبركوي، ووجدت على الصفحة الأولى
العبارة التالية التي كتبها أحد متملكي الكتاب: “الاشتغال بالنحو بداية
الحياة” ، ولا أدري لماذا دهمني يومها ولع غريب بعلم النحو، فاقتينت وقرأت
معظم كتب ابن هشام، وابن الحاجب مع شروحها وحواشيها (الكافية، والشافية)، وكان شرح
(المفصل) لابن يعيش سميري ورفيقي، وكم كانت تروق لي كتب الدكتور قباوة وتحقيقاته
سواء في النحو أو الصرف ناهيك عن شروح (الأجرومية)، والشروح العثمانية الكثيرة
لكتاب (العوامل) للبركوي، وكانت مكتبة الثانوية تضم جميع كتب الشيخ خالد الأزهري
في علوم العربية، وكنت شديد التعاطف مع هذا العالم، لأنه كان خادماً في الجامع
الأزهر يتولى إشعال السرج، وعندما تعرض لإهانة من أحد الطلبة قررأن يترك ما هو فيه
وأن يلتحق بطلب العلم، وخلال فترة وجيزة برع وتفوق وغدا مؤلفاً، والآن اندثرت
كتبه، ولم يعد لها من ذكر! ربما لأنها كانت مجرد كتب تعليمية تفتقر للابتكار، وفي
هذا الجو المتشبع من كتب الأقدمين قرأت كتاب (تجديد النحو) لإبراهيم مصطفى، فأنكرت
عليه دعواه، ولم أتذوقها، وأنكرت على طه حسين تقديمه وتقريظه، وكانت نسخة الخسروية
مليئة بهوامش ردودي وتفنيداتي، وفي تلك الفترة كانت تتجاذبني تيارات متوترة،
فمحبتي للتصوف أوقعتني في حبائل (مقالات) الكوثري التي استظهرتها بكل ما فيها من
ردود على التيار السلفي، غير أنها في الوقت ذاته كانت ترسخ اتجاهاً محافظاً يدعو
للتمذهب بمذهب فقهي محدد، وفي المقابل عرفتني محبتي لمصطلح الحديث على شخصيتين
إصلاحيتين امتلكتا العلم والحجة: الشيخ طاهر الجزائري صاحب (توجيه النظر إلى أصول
الأثر)، وجمال الدين القاسمي صاحب (قواعد التحديث)، فقد كانا رائدي الاتجاه
الإصلاحي الديني في بلاد الشام، وكان لهما دور مهم في تحريك ما جمد وخمد وهمد 
وفي
صف الباكالوريا درّسنا الفلسفة وعلم أصول الفقه الدكتور محمود عكام، وكانت جاذبيته
وألمعيته لا تضاهى، فبدأت أميل لدراسة المنطق والأصول، وبدأت يومها باستقصاء كتب
الأصول والمنطق، والقراءة فيها، وبعد سنة بالضبط، وكنت طالب سنة أولى جامعية (كلية
الشريعة جامعة دمشق) كتبت ونشرت أول بحث لي بعنوان: (اللغة بين علمي المنطق وأصول
الفقه)، وكانت مكافأة نشر البحث 3500 ليرة سورية رصدتها لمطعم (ست الشام) أعزم
عليه أصدقائي وأصحابي، مرة تلو الآخرى.
أخيراً
في دمشق وجدت موئلي في مكتبة الأسد، فداومت فيها أكثر من دوامي في كلية الشريعة،
وكانت البؤرة الحضارية الأولى في سورية، وهنالك بدأت رحلة جديدة مع أسماء كتب
جديدة مترجمة وغير مترجمة.
      
محمد أمير ناشر النعم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *