
بضعة أيام مرت بنا ذكرى (ليلة الإسراء والمعراج)، فعادت بي إلى خمس عشرة سنة، يوم
دعاني الشيخ اللطيف المؤنس عادل حلبية إمام جامع بلال في أريحا لحضور (ليلة
الإسراء والمعراج)، وإلقاء كلمة الاحتفال.
الجامع شاهدت فرقة منشدين لم أرها سابقاً، فسألت الجالس بجانبي من أين هذه الفرقة؟
أجابني: من أريحا.. وشرح لي أن زعيمهم عنده غرفة كبيرة في منزله، وقد حوّلها إلى
زاوية إنشاد، وغدا “شيخ طريقة” بين ليلة وضحاها، وأعضاء الفرقة هم
أصدقاؤه السابقون ممن تحولوا معه من عالم الجهل والمعكدية إلى عالم المشيخة.
كانوا
يلبسون “المكلابيات” البيض لباساً موحداً، ويعتمرون طاقيات بعضُها أبيض
اللون، وبعضها مزركش الألوان مما يصنع عادة بالمخرز في السجن. كانوا، جميعهم، قد
أعفوا لحاهم، بدون تطويل، إعفاء يمكن أن تنسبه إلى الإهمال لا إلى التدين، أما
شواربهم فكانت كثة تقتحم العين اقتحاماً، ولأنهم لم يفطنوا إلى حلاقتها أو تخفيفها
فقد نمَّت باصفرارها عن شراهتهم الشديدة لشرب (التتن) الدخان وما يشبهه.
كلمتي، وجلست مرتاحاً، رخياً، متطامناً بعد أن زايلني التوتر، كما يزايل أي متحدث
بعد انتهائه إذا كان حديثه على رؤوس الخلائق والأشهاد.
الفور استل أعضاء الفرقة دفوفَهم الكبيرة، واصطفوا خلف طاولتين من الفورميكا،
وشرعوا في الإنشاد، وبدون تمهيد، وبدون تدرّج، قفزوا إلى الجواب، بل إلى أعلى نقطة
تصل أصواتهم إليه، في نشيد لم أستبن كلماته، لأنني لم أسمع به من قبل، على الرغم
من رصيدي الهائل فيه، فأنا على دراية بمعظم مدارسه التي تختلف من طريقة إلى طريقة،
بدءاً من الطريقة الشاذلية، ومروراً بالنقشبندية، والرفاعية، وحتى القادرية
الجيلانية بفرعيها المدني الحضري، والريفي البدوي الرقاوي، ولأن هول ضرب الدفوف
والمزاهر كان يعصف بكل الحضور، أيقنت ساعتها أن قلبي ليس هو الوحيد الذي يكاد
ينفجر، بل قلوب كل المصلين الجالسين أمامي.
مدينة أريحا من المدن التي تعشق النغم، وتقدر الفن تقديراً عالياً، وكان فيها
أصوات صادحة قوية لا نظير لهاوحقيقةً،
كانت مدينة أريحا من المدن التي تعشق النغم، وتقدر الفن تقديراً عالياً، وكان فيها
أصوات صادحة قوية لا نظير لها كصوت المنشد القدير أحمد البربور رحمه الله، الذي
انتشر صيته في الآفاق، أو الصديق الشيخ محمد غنيم أبو العباس، وأصوات أخرى شجية
لطيفة كصوت الأستاذ أبو منهل صلاحو، أو الحاج عادل عيد، رحمه الله، وكنت أؤمل
وجودهم في المكان، فهم يملؤون الروح والنفس طرباً ونشوة، ولسبب ما لم يحضر يومها
أحد منهم، ولكن، من لطف الله بي، جلس قبالتي مباشرة سمير العوض المشهور بـ
“سمير قفل“.
سمير العوض من مجاذيب أريحا الوديعين اللطيفين دائمي الابتسام، وكان ضخم الجثة،
شديد السمرة، ويلبس دائماً مكَلابية لونها بني غامق. كان من عائلة جميع أفرادها
مجذوبون: وشذ عن القاعدة أخوهم الأستاذ مالك عوض الذي غدا أميناً لشعبة الحزب
أولاً، ثم ممثلاً عن أريحا في مجلس الشعب ثانياً، وهو عازف عود متميز ثالثاً.
سمّي بـالقفل لأنه كان إذا انزعج من شخص وقف قبالته ورفع يده إلى فم ذلك الشخص كأنه ممسك بمفتاح ثم أدار يده كأنه يقفل باباً وقال: قفل
العادة، كنت أصادفه في السوق، وفي الساحة، وفي الطريق، مرة متأبطاً
صندويشة معلاق يجود عليه بها قصابُنا أبو الخير البَوْ، ومرة أخرى صندويشة فلافل،
ومرة ثالثة قرص شعيبيات.
طلته، للوهلة الأولى، تبعث فيمن لا يعرفه الرهبة، فهو رجل ضخم، وجهه كبير متطاول
يشبه وجه رياض في مسلسل أفلام كرتون (أبطال الملاعب)، أما الأهالي فكانوا يحبونه
ويمازحونه، ومَنْ منهم لا يعرف سمير القفل؟ ومن منهم لا يود ممازحته ومعابثته
المعابثة الودودة اللطيفة التي لا تتخطى الحدود إلى المضايقة أو الإزعاج؟ وكان يجيبهم
دائماً بابتسامته الطفولية المنعتقة من كل هم وغم، وبكلام غالباً نصفه أو أكثر غير
مفهوم.
عصف الدفوف في الجامع يزداد، ورأيت في عيون المصلين جميعاً، وفي سحناتهم، التبرم
والامتعاض من هذا النشيد الذي تتداخل كلماته بعضها في بعض من دون أن نميز هل هي
عامية أم فصحى. منظومة أم منثورة؟ وبدا أن الجميع يراهن على تعب حناجر هؤلاء
الزاعقين، وعلى كلل أيديهم، فهذا هو المنجى والملجأ من هذا الوطيس المستعر.
جالساً مع المشايخ وظهري للمحراب جلسةَ التشهد في الصلاة، فغيرت جلستي وتربعت،
وبدأت أمارس اليوغا للتخلص من آثار هذا النشيد القتّال، وفي حمأة تركيزي كنت
أتواصل بعيوني مع سمير القفل، وأتجاذب معه أطراف الحديث، وكنت أغمزه بعيني
مستفهماً: ما رأيك بما تسمع يا سمير؟ وكان سمير يلتقط موجتي التقاطاً بارعاً،
فيشير إليّ بظاهر كفه قائلاً: ارمِ بهم إلى بعيد.
الوصلة الإنشادية ساعة كاملة، بنَفَس واحد، بمقام واحد، بكلمات غير مفهومة، ولعلها
كانت أطول مدة نشيد نحضرها جميعاً في حياتنا. ساعة حولتها فظاظة النغم، وبدائية
الأداء إلى قهر، فبدت كأنها دهر.

وبدون تمهيد أيضاً، وبدون تهيئة، وبدون إغلاق انبتر نشيد الفرقة، وانتهى أداؤهم
بعد أن يئس الجميع من انتهائه، فقد كان حال المنشدين يوحي بأنهم يقولون: إلى
الأبد! إلى الأبد!
هدوء لم نسمع فيه نأمة. مرت ثانية، ثانيتان، ثلاث ثوان، أربع! هدوء وصمت عجيبان!
وكأن الجميع لم يكن مصدقاً أن هذا الكابوس قد انتهى! ثم بأعلى صوته صاح سمير
القفل: (الله يكسِّر إيديكم على هَـ النشيد).
الجامع بالضحك، بل انتاب المصلون حالة لغط بهيج من هذا التعليق، ولم أتمالك نفسي
فصحت وأنا أضحك: لقد أنطقه الله… لقد أنطقه الله.
….
….
….وفي الشهر
السابع من سنة 2013 حامت طائرة أسدية فوق السوق الشعبي في مدينة أريحا، وصبّحت على
المارة الوادعين بصاروخ ترك العشرات، مِزَقاً وأشلاء، وكان من جملتهم سمير العوض
(القفل).
محمد أمير ناشر النعم