نشأت متعصباً صارماً عنيفاً! شأن كل مولود يولد لدناً ليّناً، سهلاً سمحاً، فأبواه
أو معلموه أو دينه أو إيديولوجيته تجعله متعصباً متشدِّداً عنيفاً، أو متشنجاً
متزمِّتاً مقاضياً، أو عفوّاً متغافلاً متسامحاً.
وبالقياس إلى إنسان يمشي كحوض ضخم مُلئ
بأحكام التقييم وتصنيف البشر بناءً على معتقداتهم، وأُترع بالفَرَق من المخالف من أفكارهم،
يغدو التسامح أمراً عسير المنال، ولا سيما إذا كان يعيش في خلطة مشوَّشة من مبدأي:
(الولاء والبراء)، و(الحب في الله والبغض في الله)، هذان المبدآن اللذان يصيبان
أول ما يصيبان الأقرب فالأقرب، قبل الأبعد فالأبعد، ويجعلان المرء في تحفّز وتوفّز دائمين لسفح ذمة المخالف،
وإراقة عرضه، والتحذير من آفته! ويُلجئانه إلى مسالك لا يفضي ضِيقها إلا إلى ضيق
أكثر، ولا تؤدي مساربها إلا إلى مسالك تصطدم بتجلطات التوجس وتكلّسات الحذر فلا
يكون أمامها إلا الانسداد أو الارتداد.
بأحكام التقييم وتصنيف البشر بناءً على معتقداتهم، وأُترع بالفَرَق من المخالف من أفكارهم،
يغدو التسامح أمراً عسير المنال، ولا سيما إذا كان يعيش في خلطة مشوَّشة من مبدأي:
(الولاء والبراء)، و(الحب في الله والبغض في الله)، هذان المبدآن اللذان يصيبان
أول ما يصيبان الأقرب فالأقرب، قبل الأبعد فالأبعد، ويجعلان المرء في تحفّز وتوفّز دائمين لسفح ذمة المخالف،
وإراقة عرضه، والتحذير من آفته! ويُلجئانه إلى مسالك لا يفضي ضِيقها إلا إلى ضيق
أكثر، ولا تؤدي مساربها إلا إلى مسالك تصطدم بتجلطات التوجس وتكلّسات الحذر فلا
يكون أمامها إلا الانسداد أو الارتداد.
لقد كنتُ ذلك الإنسان في ناشئة أمري،
ولكم أحببت في الله، وأبغضت في الله! ولكم بادرت إلى التصنيف وإلى الإدانة! فلا
هَدَادَ في دين الله ولا استكانة.
ولكم أحببت في الله، وأبغضت في الله! ولكم بادرت إلى التصنيف وإلى الإدانة! فلا
هَدَادَ في دين الله ولا استكانة.
هل يحق لي، وقد ذرّفت على الخمسين أن
أتحدّث عن تجربتي الشخصية الطويلة المتراكمة في التحول من شاب يافع أُترع حماسة
ونزقاً وتعصباً وشغفاً ووجداً، إلى رجل يسير باضطراد نحو الكهولة والرحابة
والتسامح الممزوجين سكينة وتطامناً؟
أتحدّث عن تجربتي الشخصية الطويلة المتراكمة في التحول من شاب يافع أُترع حماسة
ونزقاً وتعصباً وشغفاً ووجداً، إلى رجل يسير باضطراد نحو الكهولة والرحابة
والتسامح الممزوجين سكينة وتطامناً؟
بعد نجاحي في الصف التاسع بتفوّق دخلت
إلى الثانوية الشرعية (الخسروية) سنة 1984، وكانت
بالقياس إليّ الجنة التي أحلم بأن تطأها قدماي. أردت أن أدخلها في الصف السابع،
لكن والدتي منعتني من ذلك إشفاقاً على وحيدها من مصير ولدي أختيها اللذين اعتقلهما
النظام أولاً، ثم أعدمهما لاحقاً بحجة انتمائهما للإخوان المسلمين.
إلى الثانوية الشرعية (الخسروية) سنة 1984، وكانت
بالقياس إليّ الجنة التي أحلم بأن تطأها قدماي. أردت أن أدخلها في الصف السابع،
لكن والدتي منعتني من ذلك إشفاقاً على وحيدها من مصير ولدي أختيها اللذين اعتقلهما
النظام أولاً، ثم أعدمهما لاحقاً بحجة انتمائهما للإخوان المسلمين.
لسبب ما، لا أدري ما هو، فُتنت، وأنا
في الصف الأول الإعدادي بالموضوعات التي تدرَّس في هذه الثانوية، وبخاصة حينما
اطلعت على كتاب الفقه الحنفي (الاختيار لتعليل المختار)، وقرأت فيه بحث (الشُفعة)،
ويالهول هذه اللغة والمصطلحات الغريبة على طفل في الصف الأول الإعدادي! وكان
التحدي لامتلاك ناصية هذا النص سائقي في التصميم على دخول هذه الثانوية حين يشتد
عودي.
في الصف الأول الإعدادي بالموضوعات التي تدرَّس في هذه الثانوية، وبخاصة حينما
اطلعت على كتاب الفقه الحنفي (الاختيار لتعليل المختار)، وقرأت فيه بحث (الشُفعة)،
ويالهول هذه اللغة والمصطلحات الغريبة على طفل في الصف الأول الإعدادي! وكان
التحدي لامتلاك ناصية هذا النص سائقي في التصميم على دخول هذه الثانوية حين يشتد
عودي.
في الصف العاشر امتلكتُ زمام أمري
وقويت شكيمتي، فعاندتُ الوالدة، وسجّلتُ في الخسروية، وسرعان ما باركتْ انتقالي
أمام عزمي وإصراري.
وقويت شكيمتي، فعاندتُ الوالدة، وسجّلتُ في الخسروية، وسرعان ما باركتْ انتقالي
أمام عزمي وإصراري.
كان عالم الثانوية الشرعية يمور بالسكينة
والوقار، ويعوم بالجبب والعمائم. مشايخ من كل الأعمار، بدءاً من الطلاب المعمَّمين،
وانتهاءً بالمشايخ المدرِّسين الذين تتجاوز أعمار بعضهم السبعين.
والوقار، ويعوم بالجبب والعمائم. مشايخ من كل الأعمار، بدءاً من الطلاب المعمَّمين،
وانتهاءً بالمشايخ المدرِّسين الذين تتجاوز أعمار بعضهم السبعين.
كانت محاسن هذه الثانوية لا تُعد، فهي
التي خرّجت رجالات سورية الأفذاذ: معروف الدواليبي ومصطفى الزرقا وعبد الفتاح أبو
غدة، إلخ، غير أنّ بعض المساوئ كانت تتحاذى مع محاسنها، فقد ترافق طلب العلم
والبناء المعرفي الممتاز مع بناء التعصب والتشكّك والاتهام، بل مع ارتشاف ذلك من
جميع الجهات، فحيثما التفتَّ ثمّة حلمة تلقمك التعصب، وتمدّك بالقسوة في الاتهام.
التي خرّجت رجالات سورية الأفذاذ: معروف الدواليبي ومصطفى الزرقا وعبد الفتاح أبو
غدة، إلخ، غير أنّ بعض المساوئ كانت تتحاذى مع محاسنها، فقد ترافق طلب العلم
والبناء المعرفي الممتاز مع بناء التعصب والتشكّك والاتهام، بل مع ارتشاف ذلك من
جميع الجهات، فحيثما التفتَّ ثمّة حلمة تلقمك التعصب، وتمدّك بالقسوة في الاتهام.
كلمات بسيطة قليلة. إشارات ولمحات
مقتضبة كانت كفيلة بأن تدمّر شخصاً وأن تقضي عليه، أو أن تقذف به في قفرٍ وبلقعٍ
من النفور منه والتباعد عنه. يكفي أن ينقل طالب عن أحد الأساتذة قوله: “انتبهوا
من فلان! لديه آراء شاذة” حتى يفرّ الطلاب منه فرارهم من الأسد. ويالهول كلمة
(آراء شاذة) في ذلك العمر! كم كانت مرعبة وذات دهاليز غامضة مربكة تبعث على اتخاذ
كامل الحيطة والحذر لدى نطقها وسماعها عن أول وهلة.
مقتضبة كانت كفيلة بأن تدمّر شخصاً وأن تقضي عليه، أو أن تقذف به في قفرٍ وبلقعٍ
من النفور منه والتباعد عنه. يكفي أن ينقل طالب عن أحد الأساتذة قوله: “انتبهوا
من فلان! لديه آراء شاذة” حتى يفرّ الطلاب منه فرارهم من الأسد. ويالهول كلمة
(آراء شاذة) في ذلك العمر! كم كانت مرعبة وذات دهاليز غامضة مربكة تبعث على اتخاذ
كامل الحيطة والحذر لدى نطقها وسماعها عن أول وهلة.
في تلك السنة في الصف العاشر درّسني مادة
الفقه (الأحوال الشخصية) الشيخ العلاّمة الفقيه الحنفي محمد الملاح رحمه الله.
قضيت الفصل الدراسي الأول وأنا في توجّس منه وحذر، لأنّ أحد أساتذتنا رمى كلمة
ومشى: “انتبهوا منه لديه آراء شاذة”!
الفقه (الأحوال الشخصية) الشيخ العلاّمة الفقيه الحنفي محمد الملاح رحمه الله.
قضيت الفصل الدراسي الأول وأنا في توجّس منه وحذر، لأنّ أحد أساتذتنا رمى كلمة
ومشى: “انتبهوا منه لديه آراء شاذة”!
فصلٌ دراسي كامل وأنا منتبه منه ومترقّب
ومنتظر أن يدسّ السمّ في العسل، من دون أن أعلم ماهية هذا السمّ ولا حقيقته.
ومنتظر أن يدسّ السمّ في العسل، من دون أن أعلم ماهية هذا السمّ ولا حقيقته.
كان رحمه الله أنموذج الشيخ العالم
الفقيه الكلاسيكي الممتلئ بالفقه وعلوم الآلة، وسرعان ما تفتقتْ ملكة التمييز لديَّ
للمقارنة بينه وبين بعض الأساتذة الذين تمتلئ دروسهم بالقصص والحكايات الشخصية
والعامة، على خلاف هذا الشيخ الذي ينهمك وينهمر في مقرَّره فلا يحيد عنه إلى لغو
ومباسطة وانتشاء في سرد تجارب شخصية إلا ما قلَّ وندر. وبدأت أتلمّس رويداً رويداً
الجوانب الفريدة في هذه الشخصية، وغدوت من المقربين منه. أزوره في بيته، وأحضر
دروسه في الجامع الكبير بين صلاتي المغرب والعشاء. وكان هذا أول مسمار يُنتزع من (صندوق
التسليم بكل ما يُقال ويُتداول).
الفقيه الكلاسيكي الممتلئ بالفقه وعلوم الآلة، وسرعان ما تفتقتْ ملكة التمييز لديَّ
للمقارنة بينه وبين بعض الأساتذة الذين تمتلئ دروسهم بالقصص والحكايات الشخصية
والعامة، على خلاف هذا الشيخ الذي ينهمك وينهمر في مقرَّره فلا يحيد عنه إلى لغو
ومباسطة وانتشاء في سرد تجارب شخصية إلا ما قلَّ وندر. وبدأت أتلمّس رويداً رويداً
الجوانب الفريدة في هذه الشخصية، وغدوت من المقربين منه. أزوره في بيته، وأحضر
دروسه في الجامع الكبير بين صلاتي المغرب والعشاء. وكان هذا أول مسمار يُنتزع من (صندوق
التسليم بكل ما يُقال ويُتداول).
لكنّنا لم نكن نسير بصندوق واحد فقط،
بل بصناديق متعددة محكمة الإغلاق: صندوق التعصب. صندوق الاتهام. صندوق الإقذاع البلاغي
والشتائم الأدبية، وكنت، فيما بعد، بحاجة إلى نزع مساميرها وخلخلتها وفتحها وفضها
جميعاً.
بل بصناديق متعددة محكمة الإغلاق: صندوق التعصب. صندوق الاتهام. صندوق الإقذاع البلاغي
والشتائم الأدبية، وكنت، فيما بعد، بحاجة إلى نزع مساميرها وخلخلتها وفتحها وفضها
جميعاً.
كان مثلنا الأعلى في الإنشاء والأدب
مصطفى صادق الرافعي، وكان يعلمنا: (فلنتعصب). وكانت كياناتنا الصغير تتشرب هذه
الدعوات وتنفعل بها، وتتحول إلى مبادئ وقيم، تخوّلك أن تتحدى بها الكرة الأرضية
مجتمعة بكل إباء وشمم! وكانت كتاباته زادنا الأول في إطلاق موجاتنا الساخرة من
الخصوم الحقيقيين والمفترضين، ومعلّمنا في نحت العبارات التحقيرية الازدرائية! فكما
أنَّه سمّى طه حسين بـ (طاحين)، فنحن أيضاً سنسمي مناوئينا (فاحين) و(ماحين) وما
سواهما، وسنشبِّههم اقتداءً بالرافعي بالذباب تارة، وسنتوسع في التشبيهات تارة
أخرى لبقية أصناف الحيوانات والحشرات والهوام.
مصطفى صادق الرافعي، وكان يعلمنا: (فلنتعصب). وكانت كياناتنا الصغير تتشرب هذه
الدعوات وتنفعل بها، وتتحول إلى مبادئ وقيم، تخوّلك أن تتحدى بها الكرة الأرضية
مجتمعة بكل إباء وشمم! وكانت كتاباته زادنا الأول في إطلاق موجاتنا الساخرة من
الخصوم الحقيقيين والمفترضين، ومعلّمنا في نحت العبارات التحقيرية الازدرائية! فكما
أنَّه سمّى طه حسين بـ (طاحين)، فنحن أيضاً سنسمي مناوئينا (فاحين) و(ماحين) وما
سواهما، وسنشبِّههم اقتداءً بالرافعي بالذباب تارة، وسنتوسع في التشبيهات تارة
أخرى لبقية أصناف الحيوانات والحشرات والهوام.
وزاد من ضراوتنا وحِدَّتنا تشبُّعنا بـ
كتابات الشيخ محمد زاهد الكوثري و(مقالاته) التي قصّتْ مفصّلاً معاركه مع السلفية
وجماعة أنصار السنة المحمدية، وتحديداً مع مؤسِّسها الشيخ محمد حامد الفقي! تلك
المعارك التي برع في إدارتها إيّما براعة فتجاور فيضٌ دفّاق من المعلومات
التاريخية والعلمية، وفيض طافح من السخرية والهجاء والتوبيخ وشدة الاتهام، وكان كلّ ذلك يتجمّع في نفوسنا، ثم ينقّر
عن متنفّس له! وعمّن يمكن أن يكون أهلاً لشتائمنا واتهاماتنا، ولو على أدنى شبهة
وأوهى سبب.
كتابات الشيخ محمد زاهد الكوثري و(مقالاته) التي قصّتْ مفصّلاً معاركه مع السلفية
وجماعة أنصار السنة المحمدية، وتحديداً مع مؤسِّسها الشيخ محمد حامد الفقي! تلك
المعارك التي برع في إدارتها إيّما براعة فتجاور فيضٌ دفّاق من المعلومات
التاريخية والعلمية، وفيض طافح من السخرية والهجاء والتوبيخ وشدة الاتهام، وكان كلّ ذلك يتجمّع في نفوسنا، ثم ينقّر
عن متنفّس له! وعمّن يمكن أن يكون أهلاً لشتائمنا واتهاماتنا، ولو على أدنى شبهة
وأوهى سبب.
ثم أمدّتنا
مناوشات الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ومحمد عيد عباسي وناصر الدين الألباني حول
المذهبية واللامذهبية بعصارة جديدة من القحة في جزِّ الآخر المخالف جزّاً، والجسارة
في حزّه حزّاً، فعنونتُ أول كتاب فكّرت في كتابته بــ (سهام المنيّة في الرد على
ابن تيميّة)، وكانت دفاتري تمتلئ بهذا العنوان وبتفصيلات عناوين المحتوى المزمع
كتابته، ولم يكن هذا العنوان اللئيم العنيف بدعاً من العناوين، فقد كنتُ خارجاً للتوِّ
من قراءة تحقيق الشيخ الكوثري لكتاب تقي الدين السبكي (السيف
الصقيل في الرد على ابن زفيل)، والمقصود بابن زفيل ههنا ابن قيم الجوزية تلميذ ابن
تيمية.
مناوشات الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ومحمد عيد عباسي وناصر الدين الألباني حول
المذهبية واللامذهبية بعصارة جديدة من القحة في جزِّ الآخر المخالف جزّاً، والجسارة
في حزّه حزّاً، فعنونتُ أول كتاب فكّرت في كتابته بــ (سهام المنيّة في الرد على
ابن تيميّة)، وكانت دفاتري تمتلئ بهذا العنوان وبتفصيلات عناوين المحتوى المزمع
كتابته، ولم يكن هذا العنوان اللئيم العنيف بدعاً من العناوين، فقد كنتُ خارجاً للتوِّ
من قراءة تحقيق الشيخ الكوثري لكتاب تقي الدين السبكي (السيف
الصقيل في الرد على ابن زفيل)، والمقصود بابن زفيل ههنا ابن قيم الجوزية تلميذ ابن
تيمية.
تراث كامل يذكي التعصّب، ويغذّي الشدّة
والحدّة، وينمّي الشَّنْع والقَذْع! وعناوين كتبٍ مدجّجة: (الصارم المسلول على
شاتم الرسول)، و(الصارم المنكي في الرد على السبكي)، و(الإعلان بالتوبيخ لمن ذمّ
التاريخ)، و(الكاوي لدماغ السخاوي)، وصولاً إلى (التنكيل بما في تأنيب الكوثري من
الأباطيل)، و(على السفّود)! وأشعارٌ وأقوالٌ تمجِّد التمذهب، وتنتصر لإمام بعينه، كأنّ
الله لم يخلق سواه، وتمنحه صفة العصمة التي تخوِّل صاحبها امتلاك الحقيقة الفقهية
والعقدية دون غيره! يقول الإمام
الحصكفي:
والحدّة، وينمّي الشَّنْع والقَذْع! وعناوين كتبٍ مدجّجة: (الصارم المسلول على
شاتم الرسول)، و(الصارم المنكي في الرد على السبكي)، و(الإعلان بالتوبيخ لمن ذمّ
التاريخ)، و(الكاوي لدماغ السخاوي)، وصولاً إلى (التنكيل بما في تأنيب الكوثري من
الأباطيل)، و(على السفّود)! وأشعارٌ وأقوالٌ تمجِّد التمذهب، وتنتصر لإمام بعينه، كأنّ
الله لم يخلق سواه، وتمنحه صفة العصمة التي تخوِّل صاحبها امتلاك الحقيقة الفقهية
والعقدية دون غيره! يقول الإمام
الحصكفي:
ولعنةُ ربنا أعدادَ رمل ….. على من ردَّ قول أبي حنيفة
ويقول
أبو إسماعيل الأنصاري الهروي:
أبو إسماعيل الأنصاري الهروي:
أنا حنبلي ما حييت وإن أمت….. فوصيتي للناس أن يتحنبلوا
ويقول أتباع الإمام مالكر: (الدين
هالك لولا الإمام مالك). وأما الجويني إمام الحرمين فيوبّخ كلّ من لا يقلِّد الشافعي، ويقول
بما معناه: يجب على العوام الطغام، والعلماء الأعلام أن يقلّدوا حصراً الإمام
الشافعي.
هالك لولا الإمام مالك). وأما الجويني إمام الحرمين فيوبّخ كلّ من لا يقلِّد الشافعي، ويقول
بما معناه: يجب على العوام الطغام، والعلماء الأعلام أن يقلّدوا حصراً الإمام
الشافعي.
لقد سرنا في حقول
ألغام من اللعنات والهلاك والتوبيخ والتنكيل كانت تنفجر في نفوسنا وأرواحنا
وعقولنا آناً بعد آن، وما كنّا نتلقى البلسم والضماد والسكينة إلا من خلال الاتجاه
الصوفي العام الذي كان يسيطر على أجوائنا. كنت من منتسبي الطريقة الرفاعية ألتزم
أورادها، وأنتمي لسلسلتها، وكنت من المفتتنين بالتراث النثري والشعري للإمام
الرواس والشيخ أبي الهدى الصيادي المطبوع في نهاية أيام الدولة العثمانية في
الآستانة، وكان هذا التراث الذي لملمتُ كتبه من مكتبات حلب: (الزيتوني والقطّان
والمقيّد والجزماتي والطعمة) يمدّني بتيار وجدانيٍّ عال، وبنغم روحانيٍّ مشرق،
فيعيد إلى نفسي شيئاً من التوازن، ويقصي عنها القعقعة والصليل والشخشخة، وعلى خلاف
كتب الحِجاج والردود كانت عناوين كتبهم، شأن عناوين كتب التصوف، مزركشة بالأنوار
والحدائق والرياض والأزهار والرياحين والطيور والبلابل والفيوضات والقلائد
والجواهر: (الروض البسيم)، (حديقة المعاني في حقيقة الرحم الإنساني)، (برقمة
البلبل)، (بوارق الحقائق)، (قلادة الجواهر)، (صوت الهزار)، (عقود الألماس في منهج
الرواس)، (رفرف العناية)، (الدر المنتظم)، (أزهار الحقيقة). إلخ إلخ. لقد كنت بحق
بين تراث الردود والحجاج وتراث التصوف والعرفان
كذلك الرجل الجالس في الحمّام يتلقى طاسة باردة، وطاسة ساخنة! طاسة باردة، وطاسة ساخنة.
ألغام من اللعنات والهلاك والتوبيخ والتنكيل كانت تنفجر في نفوسنا وأرواحنا
وعقولنا آناً بعد آن، وما كنّا نتلقى البلسم والضماد والسكينة إلا من خلال الاتجاه
الصوفي العام الذي كان يسيطر على أجوائنا. كنت من منتسبي الطريقة الرفاعية ألتزم
أورادها، وأنتمي لسلسلتها، وكنت من المفتتنين بالتراث النثري والشعري للإمام
الرواس والشيخ أبي الهدى الصيادي المطبوع في نهاية أيام الدولة العثمانية في
الآستانة، وكان هذا التراث الذي لملمتُ كتبه من مكتبات حلب: (الزيتوني والقطّان
والمقيّد والجزماتي والطعمة) يمدّني بتيار وجدانيٍّ عال، وبنغم روحانيٍّ مشرق،
فيعيد إلى نفسي شيئاً من التوازن، ويقصي عنها القعقعة والصليل والشخشخة، وعلى خلاف
كتب الحِجاج والردود كانت عناوين كتبهم، شأن عناوين كتب التصوف، مزركشة بالأنوار
والحدائق والرياض والأزهار والرياحين والطيور والبلابل والفيوضات والقلائد
والجواهر: (الروض البسيم)، (حديقة المعاني في حقيقة الرحم الإنساني)، (برقمة
البلبل)، (بوارق الحقائق)، (قلادة الجواهر)، (صوت الهزار)، (عقود الألماس في منهج
الرواس)، (رفرف العناية)، (الدر المنتظم)، (أزهار الحقيقة). إلخ إلخ. لقد كنت بحق
بين تراث الردود والحجاج وتراث التصوف والعرفان
كذلك الرجل الجالس في الحمّام يتلقى طاسة باردة، وطاسة ساخنة! طاسة باردة، وطاسة ساخنة.
كانت فترة المرحلة الثانوية الشرعية فترة
التلقي والتكديس، ورغم أن الله حبانا فيها بمحمود عكام المدير الشاب القادم للتوِّ
من السوربون حاملاً الدكتوراة منها، والساعي لتخفيف غلوائنا وغلواء كل المناخ
المحيط بنا، فإنَّنا كنّا نسارع إلى استخدام الرواسم ودمغ الشخصيات والأفكار
بالأحكام الصارمة الجاهزة المبرمة. لم يشذ عن هذا كبار الشخصيات المؤسِّسة للنهضة
العربية، سواء كانوا من الاتجاه المحافظ كالأفغاني ومحمد عبده ومحمد كرد علي، أو من
الاتجاه الليبرالي كفرح أنطون وطه حسين وسلامة موسى.
التلقي والتكديس، ورغم أن الله حبانا فيها بمحمود عكام المدير الشاب القادم للتوِّ
من السوربون حاملاً الدكتوراة منها، والساعي لتخفيف غلوائنا وغلواء كل المناخ
المحيط بنا، فإنَّنا كنّا نسارع إلى استخدام الرواسم ودمغ الشخصيات والأفكار
بالأحكام الصارمة الجاهزة المبرمة. لم يشذ عن هذا كبار الشخصيات المؤسِّسة للنهضة
العربية، سواء كانوا من الاتجاه المحافظ كالأفغاني ومحمد عبده ومحمد كرد علي، أو من
الاتجاه الليبرالي كفرح أنطون وطه حسين وسلامة موسى.
لقد كنّا نعرف جميع هذه الأسماء، ونعرف
شيئاً من أفكارهم من خلال الردود عليهم وتسفيههم ورميهم بكل منجنيق أو مدفع أو ما
سوى ذلك مما يقع تحت أيدي مناوئيهم، ويأتي على رأس المناوئين محمد محمد حسين الذي
حشانا بضيق أفقه من خلال كتابه الذي فُتنّا به في تلك الآونة (الاتجاهات الوطنية
في الأدب المعاصر)، ثم يليه كاتبنا الأثير الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي عدوُّ
كلِّ صوت نهضويٍّ مرّ على أمتنا في تاريخنا الحديث والمعاصر.
شيئاً من أفكارهم من خلال الردود عليهم وتسفيههم ورميهم بكل منجنيق أو مدفع أو ما
سوى ذلك مما يقع تحت أيدي مناوئيهم، ويأتي على رأس المناوئين محمد محمد حسين الذي
حشانا بضيق أفقه من خلال كتابه الذي فُتنّا به في تلك الآونة (الاتجاهات الوطنية
في الأدب المعاصر)، ثم يليه كاتبنا الأثير الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي عدوُّ
كلِّ صوت نهضويٍّ مرّ على أمتنا في تاريخنا الحديث والمعاصر.
وجاءت المرحلة الجامعية لتكون فترة
موازنة ومقارنة وفرز وإعادة تصنيف. فترة معرفة الشخصيات والأفكار من منابعها
ومصادرها، وعلى لسان أهلها وأربابها، وليس على لسان مناوئيهم وأعدائهم.
موازنة ومقارنة وفرز وإعادة تصنيف. فترة معرفة الشخصيات والأفكار من منابعها
ومصادرها، وعلى لسان أهلها وأربابها، وليس على لسان مناوئيهم وأعدائهم.
ابتدأتُ مع ابن تيمية الذي راعني فيه
ذلك العقل النقدي الهائل الذي تمتّع به، من خلال نقده المنطق الأرسطي نقداً قائماً
على معرفة تامة بالموضوع، مع تقديم حلول وبدائل ذكية، خلافاً لنقد ابن الصلاح
والسيوطي اللذين اكتفيا بالتحريم ولم يقتربا من هذا الفن لا من قريب ولا من بعيد.
لقد وضعنا علي سامي النشار في كتابه (مناهج البحث عند مفكري الإسلام) على جادة
معرفة ابن تيمية في جانب كان خفياً عنّا، وأبرزه لنا في كامل حيويته الذهنية
وجبروته العقلي، فدفعنا إلى العودة إلى تراثه واستكشاف المحيط الواسع الدافق الذي
رسمه بمؤلفاته التي تنوف مجلداتها على العشرات. كان هذا الاطلاع كفيلاً بأن أكسر
سهامي التي أرصدتها لابن تيمية، وأن أستغفر الله من وبال الجهل، والاسترسال بالخطل.
ذلك العقل النقدي الهائل الذي تمتّع به، من خلال نقده المنطق الأرسطي نقداً قائماً
على معرفة تامة بالموضوع، مع تقديم حلول وبدائل ذكية، خلافاً لنقد ابن الصلاح
والسيوطي اللذين اكتفيا بالتحريم ولم يقتربا من هذا الفن لا من قريب ولا من بعيد.
لقد وضعنا علي سامي النشار في كتابه (مناهج البحث عند مفكري الإسلام) على جادة
معرفة ابن تيمية في جانب كان خفياً عنّا، وأبرزه لنا في كامل حيويته الذهنية
وجبروته العقلي، فدفعنا إلى العودة إلى تراثه واستكشاف المحيط الواسع الدافق الذي
رسمه بمؤلفاته التي تنوف مجلداتها على العشرات. كان هذا الاطلاع كفيلاً بأن أكسر
سهامي التي أرصدتها لابن تيمية، وأن أستغفر الله من وبال الجهل، والاسترسال بالخطل.
كانت خطتي أن أقرأ المؤلفات الكاملة
لكلّ شخصية شغلتني في الماضي، وألّا أوكّل، من الآن فصاعداً، أحداً غيري في إعطاء
الحكم عليها وتصنيفها، فقد كان لدي من الجرأة والشجاعة ما يخوّلني أن أستقلَّ
برأيي تمام الاستقلال، وأن أبنيه بوسائلي وعينيَّ لا بوسائل الآخرين ولا بأعينهم.
وكأنَّني أدركت مقولة شمس تبريزي في (مقالاته) قبل أن أقرأها بسنوات وسنوات:
“كلّ فساد وقع في العالم، فإنّ مبعثه اعتقاد إنسان بإنسان بطريق التقليد،
وإنكار إنسان على إنسان بطريق التقليد”!
لكلّ شخصية شغلتني في الماضي، وألّا أوكّل، من الآن فصاعداً، أحداً غيري في إعطاء
الحكم عليها وتصنيفها، فقد كان لدي من الجرأة والشجاعة ما يخوّلني أن أستقلَّ
برأيي تمام الاستقلال، وأن أبنيه بوسائلي وعينيَّ لا بوسائل الآخرين ولا بأعينهم.
وكأنَّني أدركت مقولة شمس تبريزي في (مقالاته) قبل أن أقرأها بسنوات وسنوات:
“كلّ فساد وقع في العالم، فإنّ مبعثه اعتقاد إنسان بإنسان بطريق التقليد،
وإنكار إنسان على إنسان بطريق التقليد”!
كانت تلك الفترة زمن اكتشافات زيف
الصور السابقة المرسومة التي تلقيناها بالتقليد والتسليم، فملأتنا حنقاً وغيظاً، وكان
ذلك أولى درجات الصعود في مرقاة التسامح التي كانت تمتد وترتفع بي كلما تقدمتْ بي
التجارب والخبرات.
الصور السابقة المرسومة التي تلقيناها بالتقليد والتسليم، فملأتنا حنقاً وغيظاً، وكان
ذلك أولى درجات الصعود في مرقاة التسامح التي كانت تمتد وترتفع بي كلما تقدمتْ بي
التجارب والخبرات.
في الصباح داومت في كلية الشريعة وعببتُ
من نهر القدس ومكة والمدينة، وبعد الظهر داومت في المكتبة الوطنية فارتشفت من نهر
أثينا وباريس ولندن. في الصباح خالطتُ الدريني والبوطي والزحيلي والسلقيني والعتر،
وبعد الظهر مازجتُ فوكو وول ديورانت وراسل وأركون والجابري وعبد الرحمن بدوي وجميل
صليبا وعادل العوا وبديع الكسم، وفي البيت ترنمتُ بأشعار أهل الذوق والوجد واستجممت
بأسمارهم وأخبارهم.
من نهر القدس ومكة والمدينة، وبعد الظهر داومت في المكتبة الوطنية فارتشفت من نهر
أثينا وباريس ولندن. في الصباح خالطتُ الدريني والبوطي والزحيلي والسلقيني والعتر،
وبعد الظهر مازجتُ فوكو وول ديورانت وراسل وأركون والجابري وعبد الرحمن بدوي وجميل
صليبا وعادل العوا وبديع الكسم، وفي البيت ترنمتُ بأشعار أهل الذوق والوجد واستجممت
بأسمارهم وأخبارهم.
بدأتْ بذرة القدرة
الانفتاحية والتسامحية تنمو رويداً رويداً، لتتيح لي البدء بصفحة جديدة. هذا البدء
الذي تكرّر في كل مرة شعرت فيها أنّني مازلت ملطخاً بآثار الآباء والمعلمين والدين
والإيديولوجيا (الإيديولوجيا ههنا هي لاهوت التحرير الذي كنّا نتتبع أخباره وقصصه
من أمريكا اللاتينية، والذي كان يتيح للمتديّن أن يكون يسارياً على نحوٍ ما، وكان
حسن حنفي أحد أهم نوافذنا عليه).
الانفتاحية والتسامحية تنمو رويداً رويداً، لتتيح لي البدء بصفحة جديدة. هذا البدء
الذي تكرّر في كل مرة شعرت فيها أنّني مازلت ملطخاً بآثار الآباء والمعلمين والدين
والإيديولوجيا (الإيديولوجيا ههنا هي لاهوت التحرير الذي كنّا نتتبع أخباره وقصصه
من أمريكا اللاتينية، والذي كان يتيح للمتديّن أن يكون يسارياً على نحوٍ ما، وكان
حسن حنفي أحد أهم نوافذنا عليه).
حُف التسامح بالامتحان والمعضلات:
في بؤرة تلك
الصفحة الجديدة وقعنا في امتحان عمليّ صارخ! وهو قضية سلمان رشدي. كان اختباراً
حقيقياً لمدى تطور وعينا وارتقائنا، ولكنّنا سقطنا فيه سقوطاً مريعاً، فقد ناصرنا
فيه فتوى الإمام الخميني الدموية الرهيبة، ووقفنا في صفّ مصطفى طلاس الذي انتهزها
فرصةً ليرد على صادق جلال العظم. وسوف أسقط أيضاً مرة أخرى في سنة 1992 يوم حزنت على مقتل فرج فودة حزناً صورياً، وسوّغت لقاتله المجرم،
تأثراً بتسويغ الشيخ الغزالي. لقد كنّا، وربما ما زلنا، خلطة عجيبة غريبة من
التناقض الظاهري والتشوش الباطني على حدٍّ سواء.
الصفحة الجديدة وقعنا في امتحان عمليّ صارخ! وهو قضية سلمان رشدي. كان اختباراً
حقيقياً لمدى تطور وعينا وارتقائنا، ولكنّنا سقطنا فيه سقوطاً مريعاً، فقد ناصرنا
فيه فتوى الإمام الخميني الدموية الرهيبة، ووقفنا في صفّ مصطفى طلاس الذي انتهزها
فرصةً ليرد على صادق جلال العظم. وسوف أسقط أيضاً مرة أخرى في سنة 1992 يوم حزنت على مقتل فرج فودة حزناً صورياً، وسوّغت لقاتله المجرم،
تأثراً بتسويغ الشيخ الغزالي. لقد كنّا، وربما ما زلنا، خلطة عجيبة غريبة من
التناقض الظاهري والتشوش الباطني على حدٍّ سواء.
كنت من أنصار أبي تمام القائل: (السيف
أصدق أنباء من الكتب)، وكنت أقرأ عن غاندي، وحركته، وعن عبد الغفار خان وجيشه،
وأحضر بعض لقاءات الأستاذ جودت سعيد المهمومة بقضية واحدة هي شرح اللاعنف والتبشير
به، غير أنّ ذلك كله لم يكن يؤثر بي، فقد كان قلبي صخرة صلداء لا تتشرب قطرات دعوة
اللاعنف، ملساء لا تستقر عليها أفكاره بتاتاً، هذه الأفكار التي لا تُبنى بالحجة
والبيان والبرهان فقط، ولكن تنبثق من التفاعلات الذاتية للإنسان التي تحدِّد مدى
نضجه واختماره وأهليته لتلقيها وفهمها وتحمّلها.
أصدق أنباء من الكتب)، وكنت أقرأ عن غاندي، وحركته، وعن عبد الغفار خان وجيشه،
وأحضر بعض لقاءات الأستاذ جودت سعيد المهمومة بقضية واحدة هي شرح اللاعنف والتبشير
به، غير أنّ ذلك كله لم يكن يؤثر بي، فقد كان قلبي صخرة صلداء لا تتشرب قطرات دعوة
اللاعنف، ملساء لا تستقر عليها أفكاره بتاتاً، هذه الأفكار التي لا تُبنى بالحجة
والبيان والبرهان فقط، ولكن تنبثق من التفاعلات الذاتية للإنسان التي تحدِّد مدى
نضجه واختماره وأهليته لتلقيها وفهمها وتحمّلها.
كان أهم وسائل إنتاج التسامح، وأوثق
بُناته، (التصوف) و(الفلسفة) و(الأدب).
بُناته، (التصوف) و(الفلسفة) و(الأدب).
أما (الأدب) فكانت رواية واحدة
من رواياته قمينة بأن تسهم في صياغة عالمي الداخلي صياغة جديدة، وتُحكم بناءه
بطريقة تؤثّر في توجهي الفكري، وتأهيل ذائقتي الفهمية! فمنذ قراءتي رواية (الأبله)
لدوستويفسكي ظللت أتساءل: هل
يمكن لقارئها أن يفلت من قبضة شخصية بطلها الأمير ميشكين؟ هذا الشاب الذي جعل وكده
أن يكون مصدر سعادة لأعدائه وأصدقائه على حدّ سواء، بطيبته التي لا تعرف أيّ شكل
من أشكال الخبث، وبساطته التي تتجاوز كلّ أصناف التكلّف، وبروحه التي شُبهتْ
دائماً بأنها روح المسيح في تجليها الروسي. بعد هذه الرواية بدأت أتذوّق معنى
اللاعنف وجدواه، بل وأستوعب ضرورته وآكديته.
من رواياته قمينة بأن تسهم في صياغة عالمي الداخلي صياغة جديدة، وتُحكم بناءه
بطريقة تؤثّر في توجهي الفكري، وتأهيل ذائقتي الفهمية! فمنذ قراءتي رواية (الأبله)
لدوستويفسكي ظللت أتساءل: هل
يمكن لقارئها أن يفلت من قبضة شخصية بطلها الأمير ميشكين؟ هذا الشاب الذي جعل وكده
أن يكون مصدر سعادة لأعدائه وأصدقائه على حدّ سواء، بطيبته التي لا تعرف أيّ شكل
من أشكال الخبث، وبساطته التي تتجاوز كلّ أصناف التكلّف، وبروحه التي شُبهتْ
دائماً بأنها روح المسيح في تجليها الروسي. بعد هذه الرواية بدأت أتذوّق معنى
اللاعنف وجدواه، بل وأستوعب ضرورته وآكديته.
وأما (الفلسفة) فعلمتني
أنّ الإيمان والإلحاد ليسا أفعالاً تحكّميّة، فأنت
تؤمن لأنك تمتلك أسباباً دامغة تدفعك لكي تؤمن، فتمتلئ نفسك باليقين وتفيض به، فلا
يسعك أن تلحد، ولا تطيق أن تلحد، فالإيمان بهذا بدلاً من ذاك يتضمن
أسباباً موجبة، وإلا كان الإيمان عبثاً خالصاً، أَوَ لم يقل توما الإكويني:
“ما كان لأحد أن يؤمن من دون أن يرى أنّه يجب أن يؤمن”. وأنت تلحد لأنك تستند، من وجهة نظرك، إلى
“وقائع مثبتة، ومبادئ صادقة” تفقد بموجبها أسباب الإيمان، فتُستنفد
الطاقة الروحية فيك، وتتلاشى القدرة على الإيمان لديك، ولا يعود في وسعك أن تؤمن،
ولا تطيق أن تؤمن!
أنّ الإيمان والإلحاد ليسا أفعالاً تحكّميّة، فأنت
تؤمن لأنك تمتلك أسباباً دامغة تدفعك لكي تؤمن، فتمتلئ نفسك باليقين وتفيض به، فلا
يسعك أن تلحد، ولا تطيق أن تلحد، فالإيمان بهذا بدلاً من ذاك يتضمن
أسباباً موجبة، وإلا كان الإيمان عبثاً خالصاً، أَوَ لم يقل توما الإكويني:
“ما كان لأحد أن يؤمن من دون أن يرى أنّه يجب أن يؤمن”. وأنت تلحد لأنك تستند، من وجهة نظرك، إلى
“وقائع مثبتة، ومبادئ صادقة” تفقد بموجبها أسباب الإيمان، فتُستنفد
الطاقة الروحية فيك، وتتلاشى القدرة على الإيمان لديك، ولا يعود في وسعك أن تؤمن،
ولا تطيق أن تؤمن!
وعلّمتني أيضاً أنَّه
لا أهمية لكون البرهان يستند على العقل، أو على التجربة أو على الشهادة، وهذا ما
يتيح لنا تقريب الحقيقة الدينية من الحقيقة الفلسفية، وأنّه بإمكان
الفلسفة أن تنظر إلى الدين، من دون أن تتعرّض لواقعة الوحي بأية مناقشة، على أنّه
نسق من الحقائق التي تبرهن وتثبت ويترابط بعضها ببعضها الآخر ترابطاً مقبولاً،
وعلى أنّه يتضمّن بُنية فلسفية باعتباره يتمركز حول معنى الوجود، ومبدأ العالم
وغائيته، ومعنى الوجود الإنساني، ومثاله الأعلى ومصيره. وبذلك كانت الفلسفة تمدّ جسوراً من أجل أن يتفهّم الأطراف المتقابلة
مواقفهم ومسوغاتها، وهذا هو حجر الزاوية في بناء التسامح.
لا أهمية لكون البرهان يستند على العقل، أو على التجربة أو على الشهادة، وهذا ما
يتيح لنا تقريب الحقيقة الدينية من الحقيقة الفلسفية، وأنّه بإمكان
الفلسفة أن تنظر إلى الدين، من دون أن تتعرّض لواقعة الوحي بأية مناقشة، على أنّه
نسق من الحقائق التي تبرهن وتثبت ويترابط بعضها ببعضها الآخر ترابطاً مقبولاً،
وعلى أنّه يتضمّن بُنية فلسفية باعتباره يتمركز حول معنى الوجود، ومبدأ العالم
وغائيته، ومعنى الوجود الإنساني، ومثاله الأعلى ومصيره. وبذلك كانت الفلسفة تمدّ جسوراً من أجل أن يتفهّم الأطراف المتقابلة
مواقفهم ومسوغاتها، وهذا هو حجر الزاوية في بناء التسامح.
تابعت صعودي
للخروج من الوهدة العميقة التي كنّا ننغرز فيها. كان رائدي في ذلك الصعود قول
شيخنا الجاحظ: (الأدب عقل غيرك تزيده في عقلك)، من أجل ذلك بحثت عن رواد التسامح،
وفتّشت عنهم، لأستصبح بهم وأستهدي، وكان أصحاب نزعة التنوير الذين مهّدوا للثورة
الفرنسية روّاداً حقيقيين لـ (التسامح)، لتأصيله، وتأطيره، والتحمّس له. وإقامة
الحجج والبراهين الداعمة له. صعدتُ برفقتهم، وصعدتْ معي الأسئلة أيضاً، فقد ولّى
زمن التسليم وحلَّ زمن المحاكمة.
للخروج من الوهدة العميقة التي كنّا ننغرز فيها. كان رائدي في ذلك الصعود قول
شيخنا الجاحظ: (الأدب عقل غيرك تزيده في عقلك)، من أجل ذلك بحثت عن رواد التسامح،
وفتّشت عنهم، لأستصبح بهم وأستهدي، وكان أصحاب نزعة التنوير الذين مهّدوا للثورة
الفرنسية روّاداً حقيقيين لـ (التسامح)، لتأصيله، وتأطيره، والتحمّس له. وإقامة
الحجج والبراهين الداعمة له. صعدتُ برفقتهم، وصعدتْ معي الأسئلة أيضاً، فقد ولّى
زمن التسليم وحلَّ زمن المحاكمة.
كنت أنشد (التسامح) في صيغته الأصفى
والأعلى، ولذلك
وجدت تسامح هؤلاء الروّاد مثلوم الفضيلة، فهذا التحمّس للتسامح لم يكن نابعاً إلا من
حالة الإلحاد التي أعلنها ديدرو صاحب (الإنسكلوبيديا)، أو من حالة الشك التي لازمت
بيير بيل صاحب (معجم تاريخي نقدي)، أو من حالة النزعة الدينية غير المرتبطة بدين التي
عاشها فولتير صاحب (رسالة عن التسامح)، ففي حالة الإلحاد الذي ما عاد يعني له
الدين شيئاً نشأ التسامح الديني عن عدم الاكتراث، وفي حالة الشك انبعثت الدعوة إلى
التسامح المطلق من حالة اللايقين المطلق.
والأعلى، ولذلك
وجدت تسامح هؤلاء الروّاد مثلوم الفضيلة، فهذا التحمّس للتسامح لم يكن نابعاً إلا من
حالة الإلحاد التي أعلنها ديدرو صاحب (الإنسكلوبيديا)، أو من حالة الشك التي لازمت
بيير بيل صاحب (معجم تاريخي نقدي)، أو من حالة النزعة الدينية غير المرتبطة بدين التي
عاشها فولتير صاحب (رسالة عن التسامح)، ففي حالة الإلحاد الذي ما عاد يعني له
الدين شيئاً نشأ التسامح الديني عن عدم الاكتراث، وفي حالة الشك انبعثت الدعوة إلى
التسامح المطلق من حالة اللايقين المطلق.
لقد كان هذا (التسامح) الذي هو قفزة هائلة في تاريخ البشرية، في
رأيي، ناقصاً، فجون لوك داعية التسامح العنيد استثنى من تسامحه فئتين:
الكاثوليكيين، والملاحدة، أما بقية الرواد ممن أتينا على ذكرهم فقد سهل عليهم أن
يتسامحوا دينياً، ولكن صعب عليهم أن يتسامحوا سياسياً، لذلك رأينا ديدرو يقول: “لن
يتحرَّر الناس إطلاقاً إلى أن يُشنق آخر ملك بمصارين آخر قسيس”!! لكن هذه
الملاحظات لم تكن لتنفي، لدي، أهمية المهمة الباسلة التي نذروا أنفسهم لها في إيقاف
مدّ التعصب الديني العنيف الذي كان أشد ضراوة وفداحة من اللاتسامح السياسي، وأكثر
إسالة للدماء منه، حيث كان ضحايا التعصب الديني أكثر بأضعاف مضاعفة من ضحايا
روبسبير الرسول المرعب للعدالة السياسية.
رأيي، ناقصاً، فجون لوك داعية التسامح العنيد استثنى من تسامحه فئتين:
الكاثوليكيين، والملاحدة، أما بقية الرواد ممن أتينا على ذكرهم فقد سهل عليهم أن
يتسامحوا دينياً، ولكن صعب عليهم أن يتسامحوا سياسياً، لذلك رأينا ديدرو يقول: “لن
يتحرَّر الناس إطلاقاً إلى أن يُشنق آخر ملك بمصارين آخر قسيس”!! لكن هذه
الملاحظات لم تكن لتنفي، لدي، أهمية المهمة الباسلة التي نذروا أنفسهم لها في إيقاف
مدّ التعصب الديني العنيف الذي كان أشد ضراوة وفداحة من اللاتسامح السياسي، وأكثر
إسالة للدماء منه، حيث كان ضحايا التعصب الديني أكثر بأضعاف مضاعفة من ضحايا
روبسبير الرسول المرعب للعدالة السياسية.
كان المهم بالنسبة إليّ أن أبني
التسامح الحقيقي مع ما يكرثني ويعنيني ويهمّني! أن أعيش تسامحاً صعباً مستصعباً خالياً
من
الشقّ والشنق، ومن الأمعاء والمصارين، وأن أكابده مكابدةً
إلى أن يغدو سهلاً مستسهلاً، موطّأ الأكناف، ينبع من حالة اليقين لا من حالة الشك،
وينبعث من الإيمان، ولا يجد غضاضةً في قبول عدم الإيمان! أن أكون كذلك من دون أن
أفقد ماهيتي وذاتيتي! كما قال هوستن سميث: “العقل المنفتح شيء جيد بشرط ألا
يبلغ بانفتاحه حدّ فقدان مفاصل الباب نهائياً”. حقاً إنّها معضلة حقيقية. أن يكون
تسامحك شاملاً، وألا تفقد مفاصل الباب نهائياً.
التسامح الحقيقي مع ما يكرثني ويعنيني ويهمّني! أن أعيش تسامحاً صعباً مستصعباً خالياً
من
الشقّ والشنق، ومن الأمعاء والمصارين، وأن أكابده مكابدةً
إلى أن يغدو سهلاً مستسهلاً، موطّأ الأكناف، ينبع من حالة اليقين لا من حالة الشك،
وينبعث من الإيمان، ولا يجد غضاضةً في قبول عدم الإيمان! أن أكون كذلك من دون أن
أفقد ماهيتي وذاتيتي! كما قال هوستن سميث: “العقل المنفتح شيء جيد بشرط ألا
يبلغ بانفتاحه حدّ فقدان مفاصل الباب نهائياً”. حقاً إنّها معضلة حقيقية. أن يكون
تسامحك شاملاً، وألا تفقد مفاصل الباب نهائياً.
وأما (التصوف) فكان معلِّماً عظيماً،
لأنَّه يرتقي بك إلى حدود أوسع وأرقى وأنقى! التصوف الذي يقول لك:
لأنَّه يرتقي بك إلى حدود أوسع وأرقى وأنقى! التصوف الذي يقول لك:
يا من يطعن الهندوكي في صنمه
عليك أن تتعلم منه الإخلاص في العبادة
فيتجاوز في تسامحه حدود المعقولية، فلا
يدعو لمجرد قبول الآخر المختلف، بل للاستفادة من كل بارقة خير قد تلوح منه،
والتلمذة عليها بصدق.
يدعو لمجرد قبول الآخر المختلف، بل للاستفادة من كل بارقة خير قد تلوح منه،
والتلمذة عليها بصدق.
لقد كنت أرى في مواقف أئمة نزعة
التنوير الأوروبي شميماً من تلك الروح الصوفية، وروحاً من روحه، ولكن التصوف كان
يعدني بما هو أعمق وأشمل.
التنوير الأوروبي شميماً من تلك الروح الصوفية، وروحاً من روحه، ولكن التصوف كان
يعدني بما هو أعمق وأشمل.
يخبرنا التصوف على لسان مولانا الرومي:
“لقد نظر آدم ذات مرة إلى إبليس بعين الاحتقار والاستصغار. لقد قام بالعجب،
وكان مفضِّلاً لذاته، وضحك ساخراً من فعل إبليس اللعين، فصاحت غيرة الحق قائلة:
أيها الصفيّ إنّك لا تعلم شيئاً عن الأسرار الخفية”.
“لقد نظر آدم ذات مرة إلى إبليس بعين الاحتقار والاستصغار. لقد قام بالعجب،
وكان مفضِّلاً لذاته، وضحك ساخراً من فعل إبليس اللعين، فصاحت غيرة الحق قائلة:
أيها الصفيّ إنّك لا تعلم شيئاً عن الأسرار الخفية”.
وينبِّهنا إلى أنّ “أولئك الذين
قالوا بالاثنين والثلاثة وما فوق ذلك متفقون يقيناً على الواحد”.
قالوا بالاثنين والثلاثة وما فوق ذلك متفقون يقيناً على الواحد”.
أما مهدي الدين الرواس فيسمع برقمة
بلبلين بجانب الكعبة! يقول أحدهما للآخر:
بلبلين بجانب الكعبة! يقول أحدهما للآخر:
“آه يا عبد الله! عالم البشر عالم
عظيم!
عظيم!
إنّي لا أحتقر ذرّةً آدمية عظمتْ أم
حقرتْ، لأنّه طيّ التكرمة يمكن أن يكون مشتملاً على نشرٍ في تلك الذرة التي
يحتقرها الشخص. الجزء المظلم يُحترم لأجل الكلّ المنير، وكون ولوج نور الكل في
الجزء من الممكن، والعاقبة مجهولة، فعليّ وعليك أن نتأدب مع النوع الإنساني،
بل على النوع الإنساني أيضاً أن يتأدب كلّ فرد منه مع بقية أفراد نوعه: قلّ أو
جلّ، شكر أو كفر“.
حقرتْ، لأنّه طيّ التكرمة يمكن أن يكون مشتملاً على نشرٍ في تلك الذرة التي
يحتقرها الشخص. الجزء المظلم يُحترم لأجل الكلّ المنير، وكون ولوج نور الكل في
الجزء من الممكن، والعاقبة مجهولة، فعليّ وعليك أن نتأدب مع النوع الإنساني،
بل على النوع الإنساني أيضاً أن يتأدب كلّ فرد منه مع بقية أفراد نوعه: قلّ أو
جلّ، شكر أو كفر“.
يتجاوز التصوف معضلة شمول التسامح وعدم
فقدان مفاصل الباب نهائياً من خلال مراعاته ثنائية (الظاهر) و (الباطن)، واعتبارهما
معاً، والتأكيد عليهما معاً. فأئمة التصوف من أهل (الباطن) يعيدون ويصقلون:
“طريقنا مبنية على الشرع”. أي: على الظاهر، ذلك أنّهم يرون أنّ
للدين جانبين متصلين اتصالاً وثيقاً يجعل منهما مظهرين لشيء واحد، أحدهما خارجي يُطلق
عليه اسم (الظاهر) أو (الشريعة) التي هي قاعدة للسلوك، والآخر داخلي يُطلق عليه
اسم (الباطن) أو (الحقيقة) التي هي المعرفة المحضة، والتي تعطي (الشرع) معناه
السامي العميق، بل وتسوّغ وجوده.
فقدان مفاصل الباب نهائياً من خلال مراعاته ثنائية (الظاهر) و (الباطن)، واعتبارهما
معاً، والتأكيد عليهما معاً. فأئمة التصوف من أهل (الباطن) يعيدون ويصقلون:
“طريقنا مبنية على الشرع”. أي: على الظاهر، ذلك أنّهم يرون أنّ
للدين جانبين متصلين اتصالاً وثيقاً يجعل منهما مظهرين لشيء واحد، أحدهما خارجي يُطلق
عليه اسم (الظاهر) أو (الشريعة) التي هي قاعدة للسلوك، والآخر داخلي يُطلق عليه
اسم (الباطن) أو (الحقيقة) التي هي المعرفة المحضة، والتي تعطي (الشرع) معناه
السامي العميق، بل وتسوّغ وجوده.
إذا نظرنا إلى الأديان من فوق في مستواها
(الظاهري) فسنرى بحاراً مختلفة بتسميات مختلفة، وسنرى حواجز بينها، ومداً وجزراً،
وأمواجاً واضطراباً، ولكن إذا غصنا إلى العمق في مستوى (الباطن) فسنجد أنها متصلة
ممتزجة، وأنّها بحر محيطٌ واحد. إنّها الميتافيزيقيا الواحدة التي تجمع في العمق
البحار جميعاً.
فمجموعة
النظم العقدية والدينية الأصلية التي وإن بدت متباينة ومختلفة في ظاهرها فهي في
الباطن تقود إلى الغايات والأهداف ذاتها إذا ما تمثّلناها حتى النهاية، لأنّ
الميتافيزيقيا الحقيقية، كما في التعليم الباطني الصوفي، ليست مسيحية أو إسلامية
أو صينية أو هندية أو غيرها. إنّها واحدة بوحدة مصدرها، ولكنها تُعرض وتقدّم في
أشكال مختلفة في الأنماط الدينية باعتبارها وجوهاً مختلفة للحقيقة الواحدة.
(الظاهري) فسنرى بحاراً مختلفة بتسميات مختلفة، وسنرى حواجز بينها، ومداً وجزراً،
وأمواجاً واضطراباً، ولكن إذا غصنا إلى العمق في مستوى (الباطن) فسنجد أنها متصلة
ممتزجة، وأنّها بحر محيطٌ واحد. إنّها الميتافيزيقيا الواحدة التي تجمع في العمق
البحار جميعاً.
فمجموعة
النظم العقدية والدينية الأصلية التي وإن بدت متباينة ومختلفة في ظاهرها فهي في
الباطن تقود إلى الغايات والأهداف ذاتها إذا ما تمثّلناها حتى النهاية، لأنّ
الميتافيزيقيا الحقيقية، كما في التعليم الباطني الصوفي، ليست مسيحية أو إسلامية
أو صينية أو هندية أو غيرها. إنّها واحدة بوحدة مصدرها، ولكنها تُعرض وتقدّم في
أشكال مختلفة في الأنماط الدينية باعتبارها وجوهاً مختلفة للحقيقة الواحدة.
يقول مولانا:
“الحقيقة مرآة إلهية
تحطّمت بنزولها إلى الأرض
ونال كل إنسان منها شظية
ورغم ذلك يؤمّل كلّ امرئ أنّه حاز الحقيقة كاملة
حين ينظر إلى الشظية التي استقرت في يده”.
(الظاهر) هو الشظية التي لا تشهد إلا نفسها، وتتصور أنّها تمتلك
الحقيقة المطلقة، وأنّها المرآة كلها، وهذا ما يعطي الظاهر اقتناعاً بأنّ الصواب
إلى جانبه، ويولّد لديه شعوراً بالراحة، ولكنه في المقابل يصبح مظنّة للدوغمائية
والتعصّب، ويمسي حالةً من حالات (المحافظة). أما (الباطن) فيرى الحقيقة مبثوثة واسعة
ممتدة، لا تُحتكر لجهة واحدة، ولا تُطوّب باسم أحد، فتولِّد هذه الرؤية سعةً
وتسامحاً وانفتاحاً ذهنياً وحالة (ليبرالية)، لكنّ هذا الانفتاح يحتاج أيضاً إلى
حدٍّ يقف عنده، وإلا فقد معناه وسُلب فضيلته، لأنّه يغدو، إذا انزلق إلى ما لا
نهاية، أقرب إلى العدمية! ومن هنا قلنا: إن التصوف يتجاوز معضلة تثبيت التسامح مع
عدم فقدان مفاصل الباب نهائياً بكونه حصيلة جداء (الظاهر) و(الباطن)، أو
(المحافظة) و(الليبرالية)، بحيث يعدّل كل منهما الآخر، ويخفف من غلوائه وتطرّفه،
ويجمع حسناته وفضائله.
الحقيقة المطلقة، وأنّها المرآة كلها، وهذا ما يعطي الظاهر اقتناعاً بأنّ الصواب
إلى جانبه، ويولّد لديه شعوراً بالراحة، ولكنه في المقابل يصبح مظنّة للدوغمائية
والتعصّب، ويمسي حالةً من حالات (المحافظة). أما (الباطن) فيرى الحقيقة مبثوثة واسعة
ممتدة، لا تُحتكر لجهة واحدة، ولا تُطوّب باسم أحد، فتولِّد هذه الرؤية سعةً
وتسامحاً وانفتاحاً ذهنياً وحالة (ليبرالية)، لكنّ هذا الانفتاح يحتاج أيضاً إلى
حدٍّ يقف عنده، وإلا فقد معناه وسُلب فضيلته، لأنّه يغدو، إذا انزلق إلى ما لا
نهاية، أقرب إلى العدمية! ومن هنا قلنا: إن التصوف يتجاوز معضلة تثبيت التسامح مع
عدم فقدان مفاصل الباب نهائياً بكونه حصيلة جداء (الظاهر) و(الباطن)، أو
(المحافظة) و(الليبرالية)، بحيث يعدّل كل منهما الآخر، ويخفف من غلوائه وتطرّفه،
ويجمع حسناته وفضائله.
إيصاد:
تقوم دراما الوجود الإنساني على ثنائيات متقابلة منها: (العنف
والسلام)، و(التعصب والتسامح)، وفي كلّ حقبة تاريخية يعود العنف والتعصب بشكل من
الأشكال، ويتجددان ويتمظهران من خلال مهوسين بالذات أحاديين، يتجاسرون على اعتبار
حقيقتهم الدينية أو السياسية هي الوحيدة القابلة للحياة، واعتبار إرادتهم المنفردة
هي الجديرة بتحريك العالم! وفكرتهم هي الوحيدة التي تبنيه، لذا كان على رجال الفكر
والأدب والقلم تبيان تفاهتهم بهتك وقارهم، وكشف جرمهم بفضح ممارساتهم، ومقارعتهم بالدعوة
إلى الحرية، ومناجزتهم بالتبشير بالسلام والتسامح، وبتأصيل ذلك بالحجة، وتدعيمه
بالبرهان المرة تلو المرة، من دون تراخ ولا توانٍ ولا فشل ولا ملل، و(إنّ الله لا
يمل حتى تملوا).
والسلام)، و(التعصب والتسامح)، وفي كلّ حقبة تاريخية يعود العنف والتعصب بشكل من
الأشكال، ويتجددان ويتمظهران من خلال مهوسين بالذات أحاديين، يتجاسرون على اعتبار
حقيقتهم الدينية أو السياسية هي الوحيدة القابلة للحياة، واعتبار إرادتهم المنفردة
هي الجديرة بتحريك العالم! وفكرتهم هي الوحيدة التي تبنيه، لذا كان على رجال الفكر
والأدب والقلم تبيان تفاهتهم بهتك وقارهم، وكشف جرمهم بفضح ممارساتهم، ومقارعتهم بالدعوة
إلى الحرية، ومناجزتهم بالتبشير بالسلام والتسامح، وبتأصيل ذلك بالحجة، وتدعيمه
بالبرهان المرة تلو المرة، من دون تراخ ولا توانٍ ولا فشل ولا ملل، و(إنّ الله لا
يمل حتى تملوا).
محمد أمير ناشر النعم
المصدر: https://l.facebook.com/l.php?u=https%3A%2F%2Fkalamoon.harmoon.org%2Fwp-content%2Fuploads%2F2019%2F05%2F%25D9%2585%25D8%25B3%25D9%258A%25D8%25B1%25D8%25A9-%25D9%2586%25D8%25AD%25D9%2588-%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25AA%25D8%25B3%25D8%25A7%25D9%2585%25D8%25AD.pdf%3Ffbclid%3DIwAR12Md3JwH5l_nn4Y14SrgOVHl30eYFrYIHj0SnlQYQi1b29QTG2tezIyGo&h=AT2P1UU0FIkTDocqXDZbZxeTa8vv-mZyNdlVHxVPYCZYNmEk0EdXferzpxSNwxr46pIUjxcrEgYDxK4vllQ_1qLO3xhaB9QOcRx8VPEQqJHaWi7H7L9f2A4RGmwjCI344vl-Jb6cRfgEpl2M8FrFl5zlOed65kjiZzy5elalrSg-Vxq43YTd8UGjChv19Cs
من أجمل ما قرأت.. تحياتي لحضرتك