الروائي لوكليزيو والرقيب السوري

للناشر
السوري في أيام حزب البعث ذكريات لا تنضب مع وزارة الإعلام، وتحديداً قسم الرقابة
الذي يعمل باعتباره آلة فرز للمخطوطات المقدمة إليه، فيحدد الجهة التي يجب أن
تراقب الكتاب وتعطي تقريرها فيه بحسب العنوان واسم المؤلف.

بعض
الكتب تُراقب في الوزارة نفسها، وبعضها الآخر يُحال إلى اتحاد الكتاب العرب، أو
إلى وزارة العدل، أو إلى وزارة الأوقاف، أما المنكوب الحظ فهو الذي يحال إلى
القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي والعياذ بالله
.
خلال
عملي ناشراً، تعرفت معظم المراقبين في وزارة الإعلام، وكان جلهم من خريجي كليات
الصحافة من الاتحاد السوفييتي الشقيق، وللإمانة فإن أغلبهم كانوا يعرفون بعض
الكلمات الروسية ويستطيعون تهجئتها، بل وكتابتها وإن بصعوبة
.
كان
الرقيب السوري بعينيه الصقريتين القابعتين تحت الغرة، ووراء النظارة، واللتين
يتطاير منهما غبار قاتم مؤلم من أهم المتحكمين بفكر الوطن ومن أهم الموجهين
لمساراته، إذ يمحو ما يشاء ويثبت، ويطلق سراح ما يريد ويسجن، وإن لم يشأ أن يمنع
كتاباً صراحةً أمكنه أن يهدهده في الدرج لأشهر ثم لسنوات بدون بت بموضوعه موافقةً
أو رفضاً
.
كانت
قراراتهم في القبول أو المنع (سياسيةً) بامتياز، على اعتبار أن السياسة في بلدنا
هي: (فن مخالفة التوقعات)! فكم من كتاب كان حقه المنع أُجيز، وكم من كتاب كان حقه
الإجازة مُنع! وكانت القاعدة في قراراتهم أنها تصدر متأنية متمهلة تمشي مشية
الحمير، لكن هذه القاعدة كان لها استثناءات دائماً، فهذا الحمار يصبح فجأة أنشط من
البغل الرهوان بكيلو من صابون الغار الحلبي، أو كيلو من زعتر الناصر. لكن وكما
تعلمون فإنّ الحمار يشتهي أن يحرن في بعض الأحيان، والبغل يروق له أن يشمس في
أحيان أخرى، وأمام هذه الحرنات لا ينفع لا الزعتر ولا الصابون ولا حتى الفستق
الحلبي
.
من
هذه الحرنات ما حدث معي في رواية (نجمة تائهة) للروائي الفرنسي الشهير (لوكليزيو)
بترجمة جميلة للصديق حسام جلال، وكانت هذه الترجمة باكورة ترجماته. دخلت إلى وزارة
الإعلام متأبطاً هذه الرواية وقد آمنت إيماناً عقلياً جازماً أن الموافقة عليها
ستمر مرّ السحاب بسلاسة ورخاء، فهي من الأعمال الأدبية الغربية النادرة التي تتحدث
عن الصراع العربي الإسرائيلي في بعده الإنساني، وتنتصر للقضية الفلسطينية بصورة لا
لبس فيها ولا تأويل، ويأتي ذلك ضمن المسار الفكري والموقف الأخلاقي الذي اتخذه
لوكليزيو، وعُدّ من خلاله من المعادين للسامية، ولكن هذا التصنيف لم يكن ليؤثر على
أديب فرنسا الذي تدرج بنيل الأوسمة والجوائز الأدبية الفرنسية من أدناها إلى
أعلاها، وتوّج ذلك بعدئذٍ بالحصول على جائزة نوبل للآداب في عام 2008
.
تتحدث
الرواية (نجمة تائهة) عن فتاتين: الأولى يهودية فرنسية اسمها أستير، والثانية
فلسطينية اسمها نجمة
.
تتتبع
الرواية الفتاة الفرنسية بدءاً من صيف 1943 في قريتها الصغيرة في منطقة نيس التي
حوّلها المحتل الإيطالي إلى غيتو، وتكتشف إستير الفتاة الوادعة معنى أن يكون المرء
يهودياً في زمن الحرب، وتعرف معاني الشعور بالخوف والمهانة والهروب بين الجبال،
ولوعة فراق الوالد وموته. وفي نهاية الحرب تقرر والدة إستير الالتحاق بدولة
إسرائيل، وفي رحلة هروبها مع أمها عبر الجبال والسهول الفرنسية يصف لكليزيو
الطبيعة بروائحها وأصواتها وأشجارها وعصافيرها وزنابقها بطريقة مغرقة في الجمال
والبهاء، وكأنه يقيم مقارنة خفية بين جمال عناصر الطبيعة،
وبين قبح عنصرية الإنسان، وعلى متن السفينة التي تتقاذفها
العواصف تكتشف إستير قوة الصلاة والدين ومعنى النجاة إلى أرض الميعاد، وعند وصول
أستير إلى مدينة القدس في شاحنات عسكرية تتوقف الشاحنات لتسمح بمرور مواكب
المهجرين العرب من النساء والأطفال، فتبصر إستير في عيون الأطفال والنساء
الفلسطينيين نفس الرعب والألم الذي كانت تراه في عيون أهلها وعشيرتها. تنزل إستير
من الشاحنة وتقترب من صفوف المهجّرين فتخرج طفلة فلسطينية من بين الصفوف، وتمد لها
كراساً كتبت في أعلى صفحته اسمها (نجمة)، فتكتب لها إستير اسمها في الكراس نفسه…
تحمل الطفلة كراسها بين ذراعيها وتسرع عائدة إلى الصفوف المنهكة من الألم والذعر
والسير دون وجهة
.
تعود
إستير

إلى الشاحنات
لتتساءل عن سبب هجرتهم؟ تصمت أمها إليزابيت بتجاهل وتشد على يدها… تكرر سؤالها
بإلحاح عن سبب هجرتهم فيأتي الجواب من امرأة لم تطأ قدماها أرض فلسطين إلا منذ
يومين فقط: “إنهنّ زوجات من يقتلونا وبناتهم”… وكان هذا الجواب
العدائي كافياً ليمنع الفتاة من النقاش. ورغم هذا اللقاء الخاطف المنطوي على تبادل
النظرات والأسماء فقط، ورغم أن الفتاتين لا تلتقيان بعده أبداً، فإنهما في منفاهما
لا تتوقفان عن التفكير ببعضهما
.
وتتابع
الرواية سرد رحلة العذاب والتشرد التي تتعرض لها نجمة في مخيمات اللجوء بتفصيل
وافٍ وشاف، وكان لوكليزيو قد نشر الجزء المتعلق بنجمة الفلسطينية في العام 1988 في
مجلة دراسات فلسطينية (الطبعة الفرنسية)، وعنون النص يومها بـ (مخيم نور شمس، صيف
1984). وسبّب هذا النص حملة هجومية صهيونية عليه باعتباره معادياً للسامية،كما
ألمحنا من قبل
.
تستمر
الرواية في سرد حياة أستير وأمها، إذ تموت الأم في نهاية المطاف، وتوصي أن تدفن في
فرنسا، بينما تهجر أستير أرض الميعاد وتغادرها من غير رجعة… في تعبير عن انهيار
الحلم الصهيوني، وأكذوبة أرض الميعاد
.
أما
نجمة العربية الفلسطينية فتبقى سيرتها معلقة، لا نهائية، مفتوحة على كل احتمالات
البؤس والضنك والهوان
.
بعد
شهرين من تسليم مخطوط الرواية للوزارة استلمتها، فوجدت الرقيب قد أخذته الحمية
البعثية الحرفية فشطب كل كلمة ورد فيها تعبير أرض الميعاد من الرواية، وكان قراره
النهائي هو منع طباعة الرواية، على اعتبار أن بطلتها يهودية آمنت في لحظة ما
بالحلم الصهيوني!! ولم أميّز يومها هل كان هذا الرجل رقيباً في وزارة الإعلام
السورية أم (رقيب أول) في الجيش الإسرائيلي؟
جريدة
كلنا سوريون
محمد أمير ناشر النعم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *