الأبديون الصغار في ظل الأبدي الأكبر



كجارٍ
غليظ يقتحمك ويفرض عليك سماع أغنية جميلة أو رديئة في كل يوم عشرات المرات،
فترددها في سرك بدون إرادة أو رغبة، اقتحم حافظ الأسد سوريا!

لكنه
لم يرض أن يكون مجرد جار، بل غدا رب الدار، والقائد صاحب الثكنة والمدرسة
والجامعة والجامع والكنيسة والبار، ففرض على عيون السوريين وآذانهم وألسنتهم في
المدارس والجامعات، وفي اللوحات والواجهات، وفي الصحف والمجلات، وفي الكتب
والدفاتر والجلاءات، وفي النقود والعملات، وفي الإذاعة والتلفزيون والمكبرات أن
يروا ويسمعوا ويردِّدوا، وفق رتم موسيقي معيّن، شعارَي الأبدية:
ــ
(قائدنا إلى الأبد… الأمين حافظ الأسد).
ــ
(إلى الأبد… إلى الأبد… يا حافظ الأسد).
وفي
زمن قياسي غدت (أبدية) الأب القائد لحناً يردده اللسان، وشعوراً يلازم النفس،
على
مدار ثلاثين سنة لم يزر مدينة، ولم يتجول في شارع، ولم يحظَ مواطن واحد من بين
ملايين المواطنين بفرصة أن يقول: التقيته مصادفة! إذ لا يُعقل للأبدي الخالد أن
يخالط الفانين، ولا أن يقارف الزائلين.
وواقعاً
يخترق الروح، وحقيقةً تسيطر على العقل، فحيثما التفت المواطن السوري قرأ ذلك
جبراً، وسمعه قهراً، وردّده جهراً، وتمتم به سراً!
ولتثبيت
ذلك وترسيخه، ولتدعيمه وتعزيزه جعل (الأب القائد) من نفسه كائناً (مفارقاً)، وصيّر
حضوره الطاغي بلا حضرة، أو بحضرة مقلّصة إلى حدٍّ أدنى، فعلى مدار ثلاثين سنة لم
يزر مدينة، ولم يتجول في شارع، ولم يحظَ مواطن واحد من بين ملايين المواطنين بفرصة
أن يقول: التقيته مصادفة! إذ لا يُعقل للأبدي الخالد أن يخالط الفانين، ولا أن
يقارف الزائلين.
وبعد
أن نطح (الأب القائد الخالد) بشموخه الغيوم، وأمسك بسوريا في كلتا يديه غنيمة
مستذَلة صار همّه الوحيد إبطاء الزمن في سوريا، فهو الإجراء الوحيد الذي يشعره
بتوقف انسراب (أبديته) من بين يديه، وتلاشي (خلوده) من أمام ناظريه، وكان من أهم
استراتيجياته في ذلك اصطناع (أبديين مثله)، مهمتهم الأولى هي إبطاء كل شيء، بإيجاز
الإنجاز مرةً، وبفرض حالة الترقب والانتظار مرة أخرى، وبإشاعة روح الغمّ والهمّ
مرة ثالثة!
كان
خلود الأبديين الصغار متفاوتاً. جاء على رأسهم أبديُّ من عالم المشايخ! أعني مفتي
الجمهورية الشيخ أحمد كفتارو، الذي تزامن وصوله للإفتاء مع وصول حزب البعث للسلطة،
فاستلم الإفتاء أولاً، بالانتخاب، في سنة 
1964، ثم ألغي مبدأ الانتخاب من أساسه! فغدا
المفتي خالداً مخلّداً في منصبه إلى يوم وفاته في عام 
2004، ومرّت أربعون سنة من حرمان طبقة المشايخ
الكبار من هذا المنصب الشرفي الذي هو، بالقياس إليهم، غاية ما يمكن الوصول إليه.
أما
الكتّاب السوريون فلم يكونوا أحسن حالاً، فهذا هو أديب “المرسح” علي
عقلة عرسان يستلم رئاسة اتحاد الكتاب العرب في عام 
1977، ولا يغادره إلا بعد وفاة القائد الخالد
بخمس سنوات، وكم من أديب وقف في سلسلة (الانتظار) ليرقى رقيَّ العرسان، من دون أن
يُقصّر في الوشاية بالقريب والبعيد لفظاً وخطاً، ومن دون أن يملَّ من الدعاء
والابتهال: “أيها الأبديّ الخالد! كلّ ما أطلبه منك أن تتيح لي أن أكذب بصدق،
وسوف ترى أنّ ما سأقوله بالغ الروعة”.
وأما
رئيس منظمة الطلائع أحمد أبو موسى فيستلم المنظمة في عام 
1980، ولا يغادرها إلا في عام 2009 بعد الذي واللُّذيَّا، وهو محمول على
آلة حدباء، والمكرفون يصيح: (الفاتحة).
هل
نذكر كذلك مصطفى طلاس أبديَّ وزارة الدفاع لأكثر من ثلاثين سنة؟
أم
محمود الزعبي الذي استلم رئاسة مجلس الشعب، ثم رئاسة مجلس الوزراء من عام 
1981 وحتى عام 2000؟
أم
محمد زياد شويكي الذي استلم رئاسة جامعة دمشق من عام 
1981 وحتى، عام 1994؟
أم
زميله عبد المجيد شيخ حسين رئيس جامعة البعث في حمص من عام 
1980، وحتى عام 2000؟
ويفوقهما
في ذلك رئيس جامعة حلب محمد علي حورية الذي استلمها في عام 
1979، وغادرها في عام 2001!
والقائمة
طويلة، وبإمكان معظمنا أن يضيف عليها بحكم موقعه وخبرته ومعاناته، أسماء مسؤولين
مزمنين، راسخين، ثابتين ثباتاً قاتلاً، بينما الناس من حولهم يكبرون ويشيخون
ويموتون، والأطفال والطلاب يتخرجون ويتزوجون وينجبون.
فأما
الذين احترموا أنفسهم من الموظفين فغرقوا كالرصاص في خضم ماء اليأس، واستسلموا،
ولم ينطحوا برؤوسهم جدار قدر القيادة الأصم، ولم يكن لهم من حيلة سوى الانتظار
الكئيب! وأما الذين لجّوا وعجّوا فتردّدوا في درك الوضاعة بدافع نفاد الصبر،
وبسائق الرغبة واللهفة للاستحقاق، فانحنوا مُكبِّين على وجوههم في خضوع وتذلل،
يرقبون مع كل تشكيلة وزارية أو قيادية سفينة الوزارة أو القيادة، وقد قاربت الوصول
إلى الميناء، ليمنّوا أنفسهم بركوبها، ولكن إعلان التشكيلة كان يعطف بقوة دفة
السفينة لتعود أدراجها إلى عمق البحر، ولتتركهم على الرصيف، وليتجه شوقهم، مرة
أخرى، إلى ما لا سبيل إلى بلوغه.
ثلاثون
سنة من القنوط التام، والعجز المهيمن، والأمل ذي الروح المنخورة المتداعية، لكل
موظف يستحق الترفيع لمنصب رفيع، ويستأهل الانتقال إلى مقام عال! لقد ضنّ عليهم
القائد الخالد بالمجد، والمجد أعظم متاع في الدنيا، واحتكره لنفسه، ولقلة قليلة من
أتباعه، ليس بدافع الوفاء لهم، كما يُشاع، ولكن لأن المبدأ الأساسي في حكمه أنه لا
يجوز أن يُرقّى من يستحق الترقية إلا إذا حدث ذلك خطأً، أو بسبب خيانة من مستشارٍ
موثوق، أو أمنيٍّ مقرَّب.
أبديون
يذكروننا بالخالدين الذين التقاهم جلفر في إحدى (رحلاته) يوم كان مع مجموعة من
سكان جزيرة (لوجناج)، فسأله شخص مرموق إن كان قد رأى في هذه الجزيرة أحداً من
الخالدين الذين يولدون ولا يموتون؟ فيجيب جلفر بالنفي، ويصيح بنشوة غامرة: ما أسعد
الأمة التي قد ينال بعض أطفالها فرصة الخلود، وما أسعد الشعب الذي يتمتع بهذه
الأمثلة الحية الكثيرة للفضائل القديمة، والذي يحظى بوجود حكماء يعلمونه حكمة
العصور السالفة كلها. ثم يسهب جلفر في الحديث عن محاسن خلود المرء! أوحت له بها الرغبة
الفطرية في حياة أبدية، وسعادة دنيوية، ولكن صاحبه يقطع عليه سلسلة خيالاته،
ويعطيه تقريراً مفصلاً عن حياة الخالدين بينهم، فإذا هي حياة ملؤها البؤس والشقاء
إلى درجة أن الناس يعتبرونهم لعنة، ويعدُّون ولادة الواحد منهم علامة شؤم، ويحدثه
عن مثالب أن يكون المرء خالداً، وهي مثالب جسدية ونفسية وسلوكية، ولكن أهم ما
يستوقفنا من هذه المثالب فكرة الغربة اللغوية التي يعيشها الخالدون! فبما أن لغة
أهل البلد في حالة تطور مستمر،
كان
أبديو حافظ الأسد كهؤلاء الخالدين في الجزيرة، مع فارق واحد بينهما، فبدلاً من أن
يعيشوا الغربة اللغوية، فرضوا جمودهم على اللغة ذاتها والبلد نفسه.
وصيرورة
دائمة فإن الخالدين من جيل ما، لا يستطيعون مجاراة تطور اللغة، إلى درجة أنهم لا
يفهمون المفردات الجديدة، والأساليب الحديثة التي تتكلم بها الأجيال الأخرى، ومع
مرور الوقت يصبحون عاجزين عن التحدث إلا بكلمات عامة قليلة، مع مَنْ حولهم من
الناس العاديين، وهكذا تضاف إلى تعاستهم تعاسة العيش غرباء في بلدهم.
لقد
كان أبديو حافظ الأسد كهؤلاء الخالدين في الجزيرة، مع فارق واحد بينهما، فبدلاً من
أن يعيشوا الغربة اللغوية، فرضوا جمودهم على اللغة ذاتها والبلد نفسه، فعاش أهلها
وناسها جميعاً في رحاب غربة لغوية وتعاسة تواصلية، مقارنة مع بقية البلدان التي
كانت تتبرعم وتزهر وتزدهر.
لقد
حوّل ابن ناعسة سوريا كلها إلى عربة ناعسة، تسير ببطءٍ، سيراً يخلو من الإرهاصات،
سيراً ثقيلاً ملؤه (الانتظار)! كل فرد ينتظر الخلاص من الأبدي الصغير الواقف
أمامه، أو الجاثم فوق صدره! وكان له ما أراد، فسارت الأمور على ما يُرام، واستطاع
جعل الشعب يردد معنى أن يكون الأب القائد خالداً إلى الأبد، وساعده الأبديون
الصغار على جعل الشعب يحس بواقع أن تكون الأبدية لحظة انتظار، أو لحظة كرب، أو لحظة
ترقُّب!
محمد أمير ناشر النعم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *